«المحيط الكبير الجميل»، وصف أطلقه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على المحيط الأطلسى، الذى يفصل الولايات المتحدة عن القارة الأوروبية، التى تشهد واحدة من أكثر الحروب دموية، فى محاولة للنأى ببلاده عن الأزمة الأوكرانية، وهى المسافة نفسها تقريباً التى يمتد عليها الخط الحديدى بين مدينة «لفيف» فى غرب أوكرانيا ومحطة «سانت بانكراس» فى لندن، وتبلغ نحو 1000 ميل، أى نحو 1609 كيلومترات، يقطعها مئات الأشخاص يومياً هرباً من وطأة الحرب المستمرة بلا توقف منذ ما يزيد على سنتين.
تستغرق رحلة القطار المنطلق من العاصمة البريطانية باتجاه الشرق نحو 19 ساعة، مروراً بالعاصمة البلجيكية بروكسل، وهى أيضاً العاصمة السياسية للاتحاد الأوروبى، ومدينة فرانكفورت التى تُشكل القوة الاقتصادية لألمانيا، ثم فيينا عاصمة النمسا، قبل أن يصل القطار إلى «كراكوف» فى جنوب شرق بولندا، ثم إلى بلدة «برزيميسل» على الحدود الشرقية لبولندا، حيث تلتقى قضبان السكك الحديدية الضيقة لأوروبا الغربية مع الشبكة الحديدية الأوسع لأوكرانيا وروسيا فى الشرق، وفى كل محطة على مسار الخط الحديدى يصطدم الأوروبيون بحقائق جديدة ومقلقة، بعدما أعلن الرئيس الأمريكى فى الأسابيع الأخيرة قرب نهاية حقبة «باكس أمريكانا»، وهو المصطلح الذى يعنى «السلام الأمريكى».
تباين مواقف الأوروبيين حول احتمالات حرب عالمية ثالثة
على متن إحدى رحلات القطار سعت صحيفة «الجارديان» إلى رصد المواقف وردود الفعل المختلفة لدى الأوروبيين فى الدول التى يمر بها الخط الحديدى تجاه تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية على «القارة العجوز»، فى حالة إذا ما تمسّك الرئيس الأمريكى بنظرته إلى المحيط الأطلسى بوصفه «المحيط الكبير الجميل»، وأمر برفع «مظلة الحماية الأمريكية» عن القارة الأوروبية، حيث نقلت الصحيفة البريطانية عن أحد السياسيين البارزين فى ألمانيا قوله إن الحكومة المقبلة فى برلين قد تكون «الرصاصة الأخيرة للديمقراطية»، فيما رجّحت دوائر سياسية أن يتمسّك النمساويون بحيادهم التقليدى كما لو أن ذلك وحده سيُبقيهم فى مأمن عن «الحرب العالمية الثالثة» التى يبدو أنها باتت على الأبواب، أما فى بولندا فربما كان هناك أكبر قدر من الوضوح فى ما يتعلق بما يجب القيام به، ومع ذلك فإن القيادة السياسية تحاول جاهدة تدبير الاعتمادات المالية اللازمة لحماية الدولة فى وقت تسود فيه انقسامات بين الشارع البولندى بشأن وجود أكثر من مليون لاجئ أوكرانى.
داخل المبنى الرئيسى لوزارة الدفاع البريطانية فى «وايت هول» سيطر شعور بالارتياح على الوزير جون هيلي عندما قال ترامب الأسبوع الماضى إنه سعيد بأن حلف الأطلسى «الناتو» يُكثّف جهوده، وهى العبارة نفسها التى استخدمها «هيلي» أثناء محاولته الترويج لجهود بريطانيا فى الحرب الروسية الأوكرانية، وبعدما أعلن الوزير البريطانى عن زيادة معدل إنفاق المملكة المتحدة على الأغراض الدفاعية إلى 2.5% بحلول أبريل 2027 كان نظيره الأمريكى بيت هيجسيث أول شخص يتصل به للتشاور حول مضمون ذلك الإعلان. وخلال الأسابيع الـ6 التى قضاها «بيت» فى منصبه الجديد ضمن فريق إدارة «ترامب» تحدّث معه «هيلي» 4 مرات، كما كان الوزير البريطانى يحرص على إجراء اتصالات دورية مع نظيره الأوكرانى رستم أوميروف فى الساعة السادسة من مساء كل ثلاثاء، وقال مصدر فى «وايت هول» إنه «من الواضح جداً أن الشرط المسبق لأخذ الولايات المتحدة الأمن الأوروبى على محمل الجد هو أن تُظهر أوروبا أننا نأخذ أمننا على محمل الجد».
من جانبه قال جورج ريكيلس الباحث فى مركز أبحاث السياسة الأوروبية: «ليس من قبيل المبالغة القول إن الدول الأوروبية تواجه أسوأ وضع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تتم إزالة بعض المتاريس التى حصّنت ربع الاتحاد الأوروبى خلال قمة الزعماء حتى الآن، يجب أن يصبح الاتحاد الأوروبى أكثر سيادة وأكثر مسئولية عن دفاعه». ولفت إلى أن قادة الاتحاد أصدروا قراراً بفتح قروض بقيمة 150 مليار يورو للإنفاق الدفاعى الأوروبى، وتخفيف القواعد الخاصة بالإنفاق وقواعد الديون للسماح لأوروبا بجمع 650 مليار يورو إضافية على مدى السنوات الأربع المقبلة من أجل التسلح، وهم مجبرون على ذلك بعد تعليق ترامب للمساعدات العسكرية والدعم الاستخباراتى لأوكرانيا، وبدء محادثات ثنائية مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، بالإضافة إلى الحرب التجارية على الشركات الأوروبية من خلال فرض رسوم جمركية على الواردات، وقال فى هذا الصدد: «ينبغى النظر إلى القمة الأوروبية الأخيرة على أنها الأولى من سلسلة من مجالس الحرب»، مؤكداً أهمية زيادة الدعم المالى والعسكرى إلى أوكرانيا.
النمسا تؤكد دعمها للسيادة الأوكرانية
وبينما كانت النمسا دولة محايدة منذ الحرب العالمية الثانية إلا أنها أكدت دعمها للسيادة الأوكرانية، ومع ذلك كانت قاب قوسين أو أدنى من تشكيل أول حكومة يقودها اليمين المتطرف منذ عام 1945 وهى حكومة موالية للكرملين علناً، حيث فاز حزب «الحرية» بأكبر حصة من الأصوات فى الانتخابات الأخيرة بنسبة بلغت 28.85%، فى الوقت الذى فشلت فيه محادثات تشكيل ائتلاف حكومى بسبب مطالب الحزب بالسيطرة على وزارة الداخلية من بين قضايا أخرى، وربما تنضم النمسا إلى كل من المجر وسلوفاكيا ككتل محتملة فى جهود الاتحاد الأوروبى لدعم أوكرانيا، وقد تحدّث المستشار المحتمل للنمسا هربرت كيكل مع زعيم حزب «الجبهة الشعبية» عما وصفتها تقارير إعلامية بـ«تاريخ طويل من الاستفزازات»، بما فى ذلك من قبل الولايات المتحدة أو من جانب حلف «الناتو».
وفى بولندا قالت ناتاشا ستيتشينسكا أستاذة فى جامعة «جاجيلونيان» بمدينة «كراكوف»: «لقد كان وقتاً محزناً للبولنديين حين كشفت إدارة ترامب عدم اكتراثها الواضح بالأمن الأوروبى، إنها خيبة أمل كبيرة خاصة بالنسبة للجيل المؤيد للأطلسى أو أنصار الشيوعية الذين كانت أمريكا بالنسبة لهم دائماً تجسيداً للديمقراطية والحرية وحقوق الأقليات، ومع ذلك هناك شبه إجماع على أن جزءاً من الاستجابة يجب أن يكون فى زيادة الإنفاق الدفاعى».
وفى هذا الإطار كشفت «الجارديان» أنه من المتوقع أن تُنفق بولندا 4.7% من الناتج المحلى الإجمالى على الدفاع هذا العام وهى النسبة الأعلى بين الدول الأوروبية فى حلف «الناتو»، وقد تحدّث رئيس الوزراء دونالد توسك عن إمكانية حصول بولندا على «رادع نووى»، كما اقترح زيادة عدد أفراد الجيش البولندى إلى أكثر من الضعف ليصل إلى 500 ألف جندى، وإنشاء تدريب عسكرى إلزامى لجميع الرجال البالغين بحلول نهاية العام. أما فى مدينة «برزيميسل» على الحدود بين بولندا وأوكرانيا تُعد محطة السكك الحديدية الضخمة المبنية من الحجر الأبيض أول ملاذ لمئات الآلاف من اللاجئين الفارين من الحرب فى الدولة المجاورة، كما أن الأعداد التى يتم استقبالها فى مركز اللاجئين تتزايد بشكل كبير مع اتساع نطاق الضربات الروسية، وبعد قرار «ترامب» بوقف الدعم الذى تُقدّمه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية فى أوكرانيا أصبح المركز يعتنى الآن بنحو 15 شخصاً فقط، كما جرى إنهاء برامج الدعم النفسى التى كانت تقدّمها إحدى المنظمات اليونانية غير الحكومية للاجئين عبر الإنترنت.