روايح الشهر الكريم | فن صناعة وصيانة الفوانيس.. مراحل دقيقة لإضاءة شوارع المحروسة في رمضان

روايح الشهر الكريم | فن صناعة وصيانة الفوانيس.. مراحل دقيقة لإضاءة شوارع المحروسة في رمضان
تتعرّض الفوانيس للتلف والتشويه، مع كثرة المتردّدين على الفنادق والمقاهى والأماكن العامة فى رمضان، ومن هنا جاءت فكرة الاستعانة بـ«سمكرى بلدى» لتصليحها، والحفاظ على شكلها الجمالى خاصة مع تراجع الإقبال التدريجى من بداية شهر رمضان، ويستمر فى الانخفاض حتى يصل إلى نهايته فى منتصف الشهر، لتأتى بعد ذلك مرحلة تخزينها لاستخدامها فى السنوات اللاحقة.
فى أحد الشوارع القديمة بمنطقة السيدة زينب بمحافظة القاهرة، حيث تختلط رائحة المعدن المحترق بدخان اللحام، يجلس أحمد البنا، سمكرى فوانيس، الرجل الذى ورث مهنة تصليح وصناعة الفوانيس عن جده لأبيه، يقول إنّ مهنة صناعة الفوانيس مرهقة وتحتاج إلى حرفى ماهر قادر على تطويع الصاج والحديد والزجاج لتكوين أشكال جمالية تسر الناظرين وتُشجّع المواطنين على شرائها بدلاً من المستوردة التى تتمتع بالكثير من المزايا.
تعلق الأربعينى بالفوانيس منذ طفولته، كان سبباً فى تسرّبه من التعليم بعد أن اكتفى بالشهادة الإعدادية: «من صغرى فى الشغلانة دى، طلعت لاقيت أبويا وجدى فيها، حبيتها وقرّرت أشتغلها لكن مش بالشكل التقليدى بتاع أهلى، ومن هنا كان لازم كل سنة أبتكر شكل جديد للفانوس، لأنى طول الوقت شايف التطوير مطلوب».
منذ نعومة أظافره يحب الرجل تلك المهنة، ويرى أنها الأنسب له، حتى إن كانت لا تُدر له دخلاً كثيراً: «كنت بارجع من المدرسة على ورشة أبويا على طول، ماكنتش باهتم بأى حاجة غير الفوانيس، وطريقة تصليحها وصناعتها، كنت باروح الورشة وهدفى أراقب وأتعلم، لأنها مهنة مش موجودة فى مناهج أو كتب، ومحدش بيتعلمها فى مدارس، دى فن بيتنقل من يد إلى يد، ولو مفيش الإيد اللى تنقل بصدق وأمانة وحرفية بعد كذا سنة مش هنلاقى فانوس واحد متعلق فى الشوارع».
الجميع يتعامل مع «البنا» على أساس أنه سمكرى فوانيس، فهو واحد من القلائل الباقين فى تلك المهنة، التى أثرت عليها عمليات الاستيراد بشكل سلبى، وقلّلت فرص بيع الفوانيس إلا إذا كانت بمواصفات خاصة، ولها مظهر جذّاب وشكل عصرى، ورغم التحديات إلا أنه ما زال محافظاً على مهنة الأجداد، يُبدع ويبتكر لمقاومة شبح الاندثار الذى يُهدّد تلك المهنة التراثية.
الفانوس من وجهة نظر «البنا»، ليس مجرد قطع معدنية وزجاج ملون يتم تجميعها، بل عمل فنى دقيق، يمر بمراحل متعدّدة ليظهر فى النهاية بالصورة التى نُحب أن نراها كل عام، وعن تلك المراحل يقول إن كل جزء فى الفانوس يحتاج إلى مراحل متعدّدة، فالصفيح يتم تقطيعه أولاً، ثم تأتى بعد ذلك مرحلة الثقوب، وتليها مرحلة التثبيت قبل أن يدخل مرحلة الحلية التى تُزينه، أما الزجاج، فيمر بثلاث مراحل رئيسية تبدأ من مرحلة التقطيع، يليها التركيب بشكل يحافظ على سلامة الزجاج حال نقل الفانوس من مكان إلى آخر، أما التزيين فهو المرحلة الأخيرة التى تسبق عملية البيع.
ويضيف قائلاً: «ممكن توصل المراحل دى لأكتر من 25 مرحلة، حسب ارتفاع الفانوس، وكل خطوة تحتاج إلى دقة وصبر، فليس هناك مجال للخطأ، أنت بتعمل فانوس هيتعلق فى الشارع يعنى مفروض يقاوم المطر والريح ويتحمل شهر كامل، علشان كده كل مرحلة لازم تاخد حقها».
يسترجع «البنا» ذكريات صناعته أحد الفوانيس الكبيرة، قائلاً: «صممت فانوساً ارتفاعه 4 أمتار فى 3 أيام فقط، كان العمل مرهقاً لكنه ممتع فى الوقت نفسه، كانت تجربة جديدة علىّ لأنى لم أتعود على هذا الارتفاع، واعتدت فقط على صناعة فوانيس ارتفاعها متر ونصف المتر بحد أقصى، لكننى قرّرت أجرب».
وإلى جانب صناعة الفوانيس، يعمل «البنا» على تصليح التالف منها، رغم صعوبة هذا الأمر لكون الفوانيس القديمة تحتاج إلى مهارة من «الصنايعى»، لأنه يتعامل مع فوانيس بدأ الصدأ يأكل منها بعض الأجزاء، وهنا تكمن الأزمة، لكون مادة اللحام لا يمكنها جمع الأجزاء التى يوجد بها صدأ، موضحاً: «أحياناً بتيجى فوانيس متفككة من بعضها، وفيه فوانيس تانية بتكون طريقة تخزينها غلط فالرطوبة بتضربها، وبتبدأ تصدى، علشان كده التصليح بتاعها بيكون محتاج مهارة وخبرة».
تصليح الفوانيس يحتاج إلى خبرة، وساعات طويلة لإعادة تجميعها، وهو ما يرويه «البنا»، قائلاً: «جالى زبون ومعاه فانوس عايز يصلحه، وضعه كان صعب، حاولت أديله بنطة لحام، لكن فشلت علشان الصدأ كان ضرب فى القاعدة، وفضلت 5 ساعات باحاول فيه علشان كنت عايز أخدم الراجل، بدل ما يشترى فانوس جديد ويتغرّم فلوس، لكن فشلت».
رغم صعوبة التصليح، لا يتردّد سمكرى الفوانيس فى مساعدة زبائنه، مؤكداً: «فى عز موسم الشغل، لاقيت واحد جايب فانوس خيامية وعايز يصلحه وبيتحايل عليّا، قلت ماكسرش بخاطره، وفعلاً بدأت أشتغل، الأول فكيت قماش الخيامية علشان أوصل للهيكل الحديدى وياريتنى ما فكيته»، وجد «البنا» أن التاجر الذى قام ببيع الفانوس للزبون قام بتغطيته بالخيامية حتى يُخفى ما به من صدأ، وهو الأمر الذى يصعب معه التصليح، قائلاً: «التاجر لما لقى جسم الفانوس بدأ يصدى، جاب قماش خيامية ولف الفانوس كله بيه، علشان يدارى الصدأ، وبعد فترة من استخدام الفانوس، وقع من الزبون، وكان لازم يتلحم، حاولت أحط اللحام مكان اللحام القديم، وعلى قد ما أقدر وقفت له الفانوس تانى علشان يفرح بيه، ويعلقه فى الشارع، لكن كنت عارف إنه هيفك منه تانى، علشان كده رفضت آخد فلوس».
مواعيد عمل ورشة «البنا» فى رمضان تتغير، فهو يُكثف العمل قبيل الشهر الكريم، ومع بدايته يبدأ بشكل تدريجى فى التقليل من الإنتاج، حتى لا تتراكم لديه الفوانيس، قائلاً: «دلوقتى باشتغل بس على التصليح، إنما الجديد خلاص وقفنا شغل فيه علشان محدش هيشترى». ويشير «البنا» إلى أن الطلب على تصليح الفوانيس يكثر فى رمضان، خاصة أن الشهر الكريم هذا العام يصادف نهاية الشتاء، وهو ما يعرّض فوانيس الشارع للرياح والأمطار ويسبّب تلفاً بها: «أحياناً باصلح الفانوس مقابل 200 جنيه، وهو مبلغ زهيد مقارنة بتكلفة المواد، أنا مش بارفع الأسعار علشان أفضل شغال، رغم أن سعر القصدير بتاع اللحام وصل لـ2000 جنيه للكيلو، ده حتى الزجاج كان سعر المتر 10 جنيه، ودلوقتى 180، والصفيح الذى كنا نشتريه بـ5 وصل لـ30 جنيه».
وعن الإضاءة فى الفوانيس يقول أحمد عيسى، أحد العاملين فى ورش صناعة الفوانيس، إنها لم تعد تعتمد على الشموع، كما فى الماضى، بل أصبحت المصابيح الكهربائية هى الأكثر شيوعاً، مشيراً إلى أن هذا التغيير فرضته التطورات التكنولوجية، حيث أصبح المستهلك يفضّل الفوانيس التى تضىء بالكهرباء أو البطاريات لسهولة الاستخدام والأمان، وحسب سامح سمير، فإن سوق الفوانيس تشهد انتعاشة كبيرة مع دخول موسم البيع، الذى يبدأ فى 15 رجب، حيث يكون هناك ضغط عمل مستمر حتى نهاية شهر شعبان، مؤكداً أن الإقبال يبدأ فى التراجع تدريجياً من بداية شهر رمضان، ويستمر فى الانخفاض حتى يصل إلى نهايته فى منتصف الشهر.