«مائدة المحبة» في شبرا.. مسلم ومسيحي «متجمعين» على الخير

«مائدة المحبة» في شبرا.. مسلم ومسيحي «متجمعين» على الخير
يبدأ أهالى شارع يلبغا، فى منطقة شبرا، بالوجود عند مقر تجمّعهم الذى لم يتغير على مدار 40 عاماً، من الساعة الثامنة صباحاً، فى جزء من مدخل منزل جارهم جميل بنايوتى، لبدء التحضيرات وإعداد وجبات إفطار الصائمين، التى يقدمونها طوال شهر رمضان، ملتزمين بعادتهم التى تتوزّع مهامها على جميع أهالى المنطقة، المسلمين والمسيحيين.
قبل رمضان بشهرين يتم رفع حالة الطوارئ فى منزل جميل بنايوتى، صاحب الـ80 عاماً، الذى بدأ فكرة مائدة الرحمن فى منطقتهم، بمساهمة والده بمساحة من أرضه الفارغة بجوار منزلهم، لإقامة المائدة وتقديم الطعام داخلها، ومع مرور الأعوام أصبح للمائدة نظام جديد، ومع موجة فيروس كورونا توقفت استضافة الصائمين داخل المائدة، وكان يتم توزيع الوجبات بعد إعدادها داخل جزء من الدور الأرضى فى منزل «جميل» على الأسر المستحقة، وفقاً لعددهم، بهدف «اللمّة» وتجميع الأسرة والمعارف على الإفطار.
«المائدة دى شافت أجيال، وقضينا فيها شبابنا، كانت فى البداية الأعداد محدودة، والأكل كان بيتوزع على ستات البيوت تجهزه، كل بيت يعمل حاجة، أم جرجس مع أم محمد، مافيش فرق بين مسلم ومسيحى لحد ما الأعداد كبرت وبقينا نجيب طباخ يعمل الأكل وبنساعده فى التحضيرات»، بهذه الكلمات تحدّث «جميل» عن فكرة المائدة.
وبمرور الأعوام كبرت المائدة بمستلزماتها، واستقر مكان تخزين جميع احتياجاتها على مدار العام، من سلع غذائية يوفّرها أهالى المنطقة بكميات قبل أشهر من رمضان، وثلاجات حفظ اللحوم والدواجن والخضار وأدوات وأوانى تحضير الطعام وطهيه داخل الجزء الذى خصّصه «جميل» فى منزله. وتابع: «الشغل متقسّم على كل واحد موجود، كلنا عواميد فى المائدة، اللى بيحضّر العصير والسلطة، واللى بيجهز الخضار للطبخ، واللى بيقطع اللحمة، واللى بيوزع الأكل على الصائمين، كله متوزّع بحيث يكون الأكل وكل حاجة جاهزة على الساعة 3 العصر، علشان نوزّع، والناس تلحق تروح لأولادها وحبايبها تفطر معاهم».
يوزّع «جميل» كروتاً على الصائمين لتنظيم الدور بأسبقية الحضور للحصول على الوجبات بشكل منظم، فى عمود مكون من عدة حلل معدنية يوزّعها القائمون على المائدة، أو فى أوانٍ يُحضرها الصائمون معهم، باستثناء المرضى وكبار السن الذين يقوم عدد من الشباب المشاركين فى المائدة بتوصيل الوجبات إليهم فى منازلهم. وأضاف: «الموضوع بيبقى منظّم علشان مايبقاش فيه زحمة وقت توزيع الأكل، الناس بتيجى تستنى من بعد الضهر وعددهم بيزيد بعد العصر كل واحد يدخل يقول أنا هافطر مع كام شخص، وياخد الأكل اللى يكفيه ويمشى، وفيه ناس بتتكسف تنزل، أو مريضة، بنبقى عارفينهم ونوصّل لهم الأكل لحد البيت، والمائدة بقت فى دمى وجزء منى».
«جميل» له محبة ومكانة خاصة بين جيرانه منذ ارتباطه بالعمل فى المائدة والمساهمة فى إفطار الصائمين خلال رمضان، لأنه اعتاد الصيام فيه منذ كان يؤدى خدمته العسكرية فى الجيش فى فترة السبعينات، قائلاً: «كنت باصوم مع زملائى فى الجيش وحاربنا سوا فى العاشر من رمضان، واليوم ده ليه معزّة خاصة عندى، بقى نظامى فى رمضان كل سنة أفطر معاهم المغرب وأتسحر بالليل، وأصحى الصبح بدرى آكل حاجة خفيفة علشان الدوا بتاعى وباكمل باقى اليوم صايم، لو مانزلتش المائدة يوم الدنيا تتقلب علىّ، والناس كلها تنادى علىّ، أنت فين يا عم جميل».
واستكمل حديثه قائلاً: «الله محبة، ودينا بيدعونا للمحبة، وإفطار صايم فيه ثواب كبير، وباتعزم كتير فى شهر رمضان من أولادى فى شغلى السابق المسلمين، وباعزمهم فى بيتى كمان، ولازم فى كل مرة أستأذن أولادى فى المائدة قبل ما أروح أى مكان، باتمنى أخدم المائدة دى طول عمرى».
من الصباح الباكر يوجد سعيد محمد، صاحب الـ70 عاماً، فى مطبخ المائدة ليقوم بدوره المعتاد فى إعداد الطعام على مدار الأعوام السابقة، فى تحضير الخضار وتقطيعه وتجهيزه للطباخ، ليبدأ فى تسوية الطعام بمجرد وصوله، وقال: «أنا ساكن فى نفس الشارع، كل يوم الساعة 8 الصبح باكون موجود باقطّع البصل والبطاطس وباحضّر الخضار علشان الطباخ، وباحدّد الكميات اللى هنطبخها خلال اليوم». وتذكر «سعيد» الذى يعمل فى المائدة منذ عامها الأول، أنه فى البداية كانت المائدة تعتمد فى طبخ الطعام على ربات البيوت فى المنطقة، قبل الاستعانة بطباخ، وتفرّغ لها تماماً بعد خروجه على المعاش. وأضاف: «شبرا منطقة جميلة تجمع المسلمين والمسيحيين مع بعض ومافيش غير ود ومحبة بينا، زمان كانت أمهاتنا وزوجاتنا هى اللى بتعمل الأكل علشان العدد كان قليل، لكن لمّا الأعداد كبرت استعنا بالطباخ، إحنا كلنا فى المائدة أصحاب واخوات وبنشتغل بمحبة، كلنا نتمنى نخدم فى المائدة لحد آخر يوم فى عمرنا».
من قرية المناشى، فى محافظة الجيزة، يأتى على رمضان، طباخ المائدة، فى التاسعة صباحاً، لبدء إعداد وتسوية الخضار والأرز واللحمة، وهى مهمة يتولاها الرجل الخمسينى الذى يقوم بتحضير نوع خضار مختلف بشكل يومى، بينما يكون الأساسى فى وجبات المائدة الأرز واللحمة والسلطة، وهو ملزم بإنهاء الطبخ قبل ميعاد الإفطار بـ3 ساعات، وقال: «البقوليات والخضار المطبوخ تتغير أنواعه بشكل يومى فى المائدة، ولازم الأكل يكون خلصان على بعد العصر، بغضّ النظر عن الكميات، فيه يوم بنعمل 35 كيلو رز، ويوم 50 كيلو حسب الإقبال فى اليوم».
ويتفرّغ «على» طوال الشهر الكريم، للعمل فى المائدة على مدار أعوام، والكميات المطلوب طبخها تختلف من يوم لآخر. وأضاف: «فى أيام الأحد والجمعة بتبقى الورش والمحلات إجازة، وكميات الأكل بتقل، مش بتبقى زى باقى أيام الأسبوع، وفى المائدة لازم الأكل يكفى علشان مايبقاش فى هدر، وفى العادى كل الأكل بيتوزع، والناس بتتراضى».
تحضير السلطة والعصائر مهمة خالد خفاجة، بالإضافة إلى المساهمة فى تنظيف الأوانى بعد الانتهاء من توزيع الوجبات على الصائمين، وهى أصعب المهام لاستعانتهم بأوانٍ كبيرة الحجم تسع الكميات التى يتم طبخها يومياً، علماً بأن وجود منزل «خالد» أمام مطبخ المائدة يُسهّل عليه الوجود داخل المطبخ حتى رفع أذان المغرب، وقال: «كلنا من نفس الشارع، وشغل المائدة بيحتاج مجهود كبير، وكلنا بنتفرّغ لها خلال شهر رمضان، أغلبنا أصلاً خرج على المعاش، فالمائدة بقت الملاذ الوحيد لىّ، وفيه بينا اللى اتوفى، واللى كبر فى السن، واللى أولاده بتيجى تساعد معانا، المائدة بقت أكبر من مجرد أكل بنعمله علشان نفطّر الصائمين، وبقت تراث هنورثه لأولادنا فى شبرا».