عضو «الوطني الفلسطيني»: الدعم العربي لمواقف مصر والأردن والسعودية «أجهض» خطة «ترامب»

عضو «الوطني الفلسطيني»: الدعم العربي لمواقف مصر والأردن والسعودية «أجهض» خطة «ترامب»
أكد الدكتور شفيق التلولى، عضو المجلس الوطنى الفلسطينى، أن الأوضاع المعيشية فى قطاع غزة تعتبر «كارثية وخطيرة»، نظراً لما خلفته حرب الإبادة الجماعية، التى استمرت ما يقرب من 15 شهراً، من بيئة طاردة للعيش، وقال إن آلة الحرب الإسرائيلية غرزت أنيابها فى جسد غزة، ونالت من البشر والشجر والحجر، من أجل دفع سكان القطاع إلى الهجرة وترك منازلهم وأراضيهم طوعاً، بعدما فشلت مخططات التهجير القسرى للفلسطينيين، نتيجة المواقف الصلبة من جانب كل من مصر والأردن والسعودية، التى وقفت حائط صد لإجهاض تلك المخططات.
وأوضح «التلولى»، فى حوار مع «الوطن»، أن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة جرى التوصل إليها من خلال مفاوضات بالنار على فوهات البنادق، من خلال التهديد والوعيد، للإفراج عن أكبر عدد ممكن من الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين، مشيراً إلى أن الاحتلال يحاول عدم الوصول لاستحقاق المرحلة الثانية من اتفاق الهدنة، بغرض استئناف الحرب، لأسباب لها علاقة بتماسك الحكومة اليمينية المتطرفة، وعدم انهيارها، وإلى نص الحوار.
■ كيف ترى الوضع حالياً فى قطاع غزة؟
- ما يحدث فى قطاع غزة كارثى وخطير على المستوى الإنسانى، لما خلفته الحرب من بيئة طاردة للعيش، بعدما جلبته من دمار وخراب طال كل أنحاء الحياة، فانعدمت كل سبلها، وهذا ما هدفت إليه آلة الحرب، حيث غرز الاحتلال الإسرائيلى أنيابه فى جسد غزة، فنالت من البشر والشجر والحجر، ليدفع السكان إلى الهجرة الطوعية، وترك أراضيهم وممتلكاتهم، بعدما فشلت مخططات الهجرة القسرية، كما يفرض وقائع احتلالية على أرض غزة، عبر إقامة مناطق عازلة فى شمال وشرق القطاع، ومواصلة احتلال محور «فيلادلفيا»، وإقصاء أى مكون سياسى من الممكن أن يدير غزة بعد الحرب، ناهيك عن ضرب مقدرات المقاومة، كذريعة لتنفيذ حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقى، وما زالت بنادق الحرب مصوبة نحو القطاع.
■ ماذا بعد انتهاء الحرب فى غزة والدخول فى الهدنة بمرحلتها الأولى؟
- كما ذكرت، يجرى ذلك فى قطاع غزة، فى نفس الوقت الذى يتم فيه تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق غزة، عبر التفاوض بالنار وعلى فوهات البنادق، من خلال التهديد والوعيد، للإفراج عن أكبر عدد ممكن من الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين، بمحاولة تمديد المرحلة الأولى للاتفاق، لعدم الوصول لاستحقاق المرحلة الثانية، فى خطوة من شأنها استئناف الحرب على غزة، واستمرار حصارها واحتلالها وعزلها، لأسباب لها علاقة بتماسك حكومة اليمين الإسرائيلى وعدم انهيارها، وضمان بقاء رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، على رأس السلطة، من خلال تنفيذ مشروع تصفية القضية الفلسطينية، عبر محو قطاع غزة، وضم الضفة الغربية، وتهويد القدس.
■ ما التوقعات لسياسات ترامب فى الشرق الأوسط خلال ولايته الثانية؟
- يسعى ترامب، خلال ولايته الجديدة، إلى فرض واقع جديد، عبر ضرب موازين القوى فى العالم، من خلال نظرية حسم الصراع بين منظومة القوى التى خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية، بوقف تلك الحرب بالقوة من خلال النفوذ الاقتصادى الأمريكى، الذى يسعى ترامب من خلاله لضبط تنامى صعود قوى اقتصادية فى العالم، وفتح حوار مع روسيا، لاستبقاء الولايات المتحدة صاحبة القطبية الواحدة فى العالم، والسيطرة على منابع القوة الاقتصادية، التى تضمن للاقتصاد الأمريكى القوة والنمو، الذى يضمن للدولة الأمريكية مواصلة التحكم فى الاقتصاد العالمى.
■ كيف يمكن تقييم تأثير السياسة الأمريكية فى عهد ترامب على القضية الفلسطينية؟
- يصر ترامب على تشكيل شرق أوسط جديد، وفرض السلام بالقوة، كما حاول فى ولايته السابقة، عبر ما سمى بصفقة القرن، ترامب ينظر إلى العالم كأنه قرية صغيرة، يريد أن يشكلها كما يشاء، ويدرك أنه لا يمكن أن يعيد تنظيم العالم، وضبط إيقاع الفواعل السياسية الدولية، دون تأمين دولة الاحتلال ودعم وجودها ككيان، من خلال شراء اتفاقيات تضمن للكيان إقامة علاقات طبيعية مع الدول العربية، وهذا يتطلب وقف الحرب على غزة، وفرض أجندته وأجندة الاحتلال الإسرائيلى، التى تسعى إلى تغيير معالم المنطقة، وصولاً إلى رسم خريطة للشرق الأوسط الجديد، تضمن وجود إسرائيل كقوة مسيطرة فى المنطقة، بعدما جرى فى لبنان وسوريا وغزة، وضرب أذرع إيران فى المنطقة.
■ هل ستستمر إدارة ترامب فى دعم المواقف الإسرائيلية، أم ستكون هناك تغييرات فى التعامل مع الملف الفلسطينى؟
- منذ أن عاد ترامب إلى البيت الأبيض، أعلن عن دعمه المطلق لإسرائيل، من خلال رفع العقوبات التى سبق وفرضتها بلاده عن المستوطنين، والإفراج عن صفقة القنابل الثقيلة لصالح جيش الاحتلال، وأخيراً ما أطلقه ترامب من تصريحات بخصوص تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الأردن ومصر، بحجة إعادة إعمار القطاع، وتحويله إلى «ريفييرا الشرق الأوسط»، بحسب تعبيره، وذلك بعدما أجبر كلاً من «نتنياهو» وحركة «حماس» على تنفيذ اتفاق غزة، تحت تهديده بالجحيم، قبيل تنصيبه رئيساً لأمريكا.
■ وكيف تعبر هذه القرارات عن علاقة أمريكا ودعمها لإسرائيل؟
- تلك القرارات الداعمة للاحتلال، أعطت «نتنياهو» الضوء الأخضر لتصعيد الموقف مجدداً، والعودة للمراوغة فى تنفيذ بنود الاتفاق، ومحاولة الالتفاف على صفقة تبادل الأسرى، بهدف إطالة أمد المرحلة الأولى، لتحول دون الوصول لاستحقاق المرحلة الثانية من الاتفاق، مما يؤكد أن ترامب بدعمه هذا، شجّع «نتنياهو» على التهرب من استحقاق الاتفاق، فى ظل إطلاق اقتراحات جديدة من إدارة ترامب، عبر مبعوثه «ستيف ويتكوف»، التى تمنح نتنياهو فرصة إطالة أمد المرحلة الأولى، أساسها السعى للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، على حساب استحقاق المرحلة الثانية، مما يجيز لنتنياهو ابتزاز حركة حماس، ودفعها إلى الرضوخ لاشتراطاته المتكررة.
■ بم تفسر ما قاله ترامب من ضرورة استقبال مصر والأردن لمزيد من الفلسطينيين، وما قابله من رفض عربى؟
- فى خضم مخططات واشنطن وتل أبيب لفرض رؤية اليوم التالى للحرب، على حساب تصفية القضية الفلسطينية، من خلال الاحتلال والتهجير والضم، يظهر الموقف العربى الصلب للتصدى لتلك المخططات، وما عبرت عنه مصر والأردن والسعودية، عبر رفض رؤية ترامب بتهجير الفلسطينيين، واعتبرت مصر أنها كانت قد أعدت خطة لإعادة إعمار غزة دون تهجير أهلها، وهذا ما أكدت عليه القمة الخماسية فى الرياض، وأكدت عليه القمة العربية فى القاهرة، والتى اتخذت قرارات داعمة للقضية الفلسطينية، ورؤية مصر فيما يخص اليوم التالى للحرب، المستندة إلى إدارة غزة من قبل الفلسطينيين، وفق آلية تنزع من ترامب ونتنياهو حجة استمرار الحرب وحصار غزة واحتلالها، ما يفرض إبعاد حماس عن الحكم، والتأكيد أن قطاع غزة جزء من المنظومة الوطنية الفلسطينية، المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وصولاً إلى إعادة مسار العملية السياسية، وفق حل الدولتين، وتدشين تحالف دولى لتحقيق ذلك، استناداً للمبادرة العربية.
■ وما تقييمك لدور مصر تجاه القضية الفلسطينية؟
- هذا كله بفضل الحراك الدبلوماسى العربى المصرى، الذى ما انفكت مصر عن السعى لتحقيقه، من خلال الدبلوماسية المصرية التى آتت أكلها خلال الحرب، إضافة إلى الفعل الدبلوماسى الفلسطينى، والدعم العربى، الذى حوّل الرأى العام العالمى لصالح القضية الفلسطينية، وأسهم فى تحولات الخطاب لدى العديد من النظم الأوروبية، فضلاً عن انتفاضة الجامعات الأوروبية والأمريكية الداعمة لوقف الحرب ودعم السلام الشامل والعادل القائم على حق تقرير المصير للفلسطينيين، وتوفير الحماية الدولية لهم، وتجلى ذلك فى تصويت الأمم المتحدة بأكثر من ثلثى أصوات العالم، لصالح وقف إطلاق النار، ومرة أخرى لصالح الرأى الاستشارى لمحكمة العدل الدولية، التى أدانت الاحتلال، وطالبت بوقف الحرب، والتى وصفتها بالإبادة الجماعية، إضافة إلى الحراك الدبلوماسى الفلسطينى والعربى، الذى أدى إلى استصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو، ووزير دفاعه يؤاف جالانت وغيرهما، وتقديمهم للمحكمة الجنائية الدولية.
■ كيف ترى الانقسام وتداعياته على القضية الفلسطينية؟
- يعد الانقسام الفلسطينى من أسوأ ما أنتجته الأزمة السياسية فى عام 2007، وما زالت حالة الانقسام مستمرة، مما تسبّب فى غرق غزة فى مستنقعات الفقر والحصار، بل وعزل القطاع عن المنظومة الوطنية، وأخذها إلى آتون حروب كثيرة وطويلة، آخرها الحرب التى أعقبت هجوم السابع من أكتوبر 2023، التى أعملت فى غزة ما أعملت، وبعد كل ما جرى من تداعيات الانقسام، فإن استعادة الوحدة الوطنية ما زالت الخيار السياسى الذى يمكن من خلاله صد مشروعات «نتنياهو» وخططه بشأن غزة والضفة والقدس.
■ هل يمكن أن تكون هناك وحدة بين الفصائل الفلسطينية؟
- يجب أن تكون كذلك، وأعتقد أن الجميع يدرك أهمية الوحدة الآن، ويجب أن تبدأ هذه الوحدة فوراً، وقد آن الأوان للعودة إلى الإطار الوطنى الفلسطينى، وعلينا العودة إلى ما وضعته القاهرة من سيناريوهات سابقة لإحراز المصالحة الفلسطينية، وأعتقد أن كل الفصائل لن تعارض ذلك، لبناء سياسى موحّد، وأساس ذلك أن نكون وفق المنظومة الدولية، فنحن لا نُغرّد منفصلين عن الكون، ونحن نُطالب بوجود دولة فى هذا العالم، فعلينا أن نتوحّد أولاً، خصوصاً حماس عليها أن تعود إلى الخلف قليلاً، للسماح بإتمام الوحدة.
■ ما معوقات المصالحة الفلسطينية وسُبل تحقيقها؟
- كان الانقسام وصفة ناجعة للاحتلال، وحجة لكل ما يجرى وما يُخطط، ومع ازدياد حُجج نتنياهو لاستمرار الحرب، واشتراط وقفها بطرد حماس ونزع سلاحها، فإن الحل الأمثل هو إنهاء الانقسام، وتسليم غزة إلى منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها الوطنية، وتمكين حكومتها من العمل فى قطاع غزة، وإطلاق يدها لإعادة إعمار القطاع، بالتنسيق مع الأشقاء العرب، خاصة مصر، حسب رؤيتها السياسية وخطتها لإعادة الإعمار، وفق آلية متوافق عليها، بعيداً عن حراب حركة حماس.
■ ما رأيك فى القمة العربية، وكيف تقيّم ما تم الكشف عنه بشأن خطة إعمار غزة التى طرحتها مصر؟
- الآن أصبحت الخطة المصرية خطة عربية، بعد المصادقة عليها من قِبل القادة العرب خلال القمة العربية الاستثنائية فى الرابع من مارس بالقاهرة، لكنها تفتح أمام العرب تحديات كبيرة، فى ظل رفض إسرائيل تلك الخطة الرامية لإعادة إعمار غزة، والعودة إلى الحديث حول خطة ترامب للتهجير بحجة الإعمار، ويتوجّب على العرب الاستمرار فى الفعل الدبلوماسى الدولى، خاصة السعى لدى الإدارة الأمريكية، لإقناعها بالخطة المصرية العربية، وكذلك الضغط باتجاه دفع التفاوض حول المرحلة الثانية لإنهاء الحرب وبدء إعادة الإعمار، فى ظل عرقلة نتنياهو تلك المراحل، والتهرّب من استحقاقاتها السياسية، ورفض وجود أى مكون سياسى فى غزة، رغم تقديم مصر وصفة لانتقال الحكم فى غزة من حماس إلى لجنة إدارية، تتبع السلطة الفلسطينية، خلال مرحلة انتقالية، من ثم تتسلم السلطة الفلسطينية زمام الحكم فى غزة.
■ وفى رأيك، ماذا يجب أن تفعل حماس؟
- يجب على حماس التنازل عن الحكم، لنزع الذرائع من نتنياهو، ومنح مصر والوسطاء والعرب فرصة تمرير تلك الخطط المقترحة، ومحاولة تجاوز معضلة نزع سلاح حماس، مثار الخلاف، والورقة الضاغطة من قِبل نتنياهو للقبول بتسليم غزة، وإنهاء الاحتلال والحصار والحرب، فضلاً عن ضرورة الإسراع فى إنجاز صفقة تبادل الأسرى، والورقة الضاغطة الأخرى بيد حماس، والمؤرقة لنتنياهو، فى ظل الضغط الداخلى الإسرائيلى لاستعادة ما تبقى من محتجزين، مما يدفع نتنياهو للتلويح بالعودة إلى الحرب، وهذا يفرض تحديات كبيرة على العرب، وعلى الفلسطينيين، الذين يريد «نتنياهو» وحكومته تصفية قضيتهم، والقضاء على كيانهم الوطنى المتمثل فى السلطة الفلسطينية، وضرب حل الدولتين، والقضاء على المشروع الوطنى الرامى لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، من هنا ذهب إلى توسيع دائرة الحرب، لتشمل الضفة الغربية، وصولاً إلى ضمها، وفى هذا السياق، تظهر أهمية التحالف الدولى الذى تقوده الرياض والقاهرة، استناداً إلى المبادرة العربية، وقرارات قمة الرياض العربية والإسلامية، وكذلك قمة الرياض الخماسية، والقمة العربية الأخيرة، التى ترجمت ذلك إلى أفعال حقيقية، تحتاج إلى تنفيذها، باستمرار الضغط الأوروبى والدولى، وصولاً إلى عقد مؤتمر دولى لإعمار غزة، ومؤتمر دولى للسلام العادل والشامل، عبر ثبات الموقف العربى، وتمسّكه بالمبادرة العربية، وقرارات القمم العربية والإسلامية، وقرارات الشرعية الدولية، واستخدام ورقة رفض إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، كما سعت «صفقة القرن» فى السابق، وفى ظل سياسة ترامب الرامية لاستعادة تلك الصفقات مجدّداً، بعيداً عن حل الدولتين، وشراء تلك العلاقات دون مقابل، ودفع استحقاق التطبيع والسلام.
■ أنت من أهالى غزة وخرجت منها قبل أيام من الحرب، كيف كان تأثير ذلك على أسرتك؟
- نعم، كنت فى مهمة خارج غزة، والمؤلم أن أسرتى وأبنائى هناك، وأنا لست معهم، ولدىّ ثلاثة أبناء، ولدان وبنت، وعلمت أن بيتى فى غزة تم تدميره، ومنزل آخر فى جباليا تم تدميره، وهذا جعل أبنائى يهربون، وهذا هو وضع الشعب بأكمله، ففى 27 أغسطس الماضى، كان من أصعب ما قرأت خلال تفقدى شريط ذكرياتى عبر متصفّح «فيس بوك»، أنه فى مثل هذا اليوم من العام الماضى، غادرت غزة متوجهاً إلى القاهرة فى مهمة خارجية، بعد عزلة فى غزة عن العالم الخارجى 11 عاماً، وكنت قد أعدت فى مرة سبقتها بأيام من معبر رفح بسبب منعى مجدّداً من السفر، من ثم خرجت بعدها بأيام بتنسيق خاص، ليستدعينى أمن حماس، الذى أراد إيصال رسالة إلىّ لإسكات صوتى، وكذلك من أصعب التعليقات التى حملها منشور الذكرى تلك، تعليقات بعض الأصدقاء، الذين أصبحوا شهداء الآن، منهم سليم النفار، الذى كتب لى «مع السلامة يا صديقى»، وزوجة خالى أيضاً، وهما اللذان سحقتهما الطائرات المجنونة وأسرهم كلهم، أخوالى وخالاتى وغيرهم ممن قضوا فى محرقة غزة، فكم أوجعنى ذلك.
■ بعد ما يقرب من عام ونصف العام وأنت خارج القطاع، صف لنا هذه المدة، وكيف مرت؟
- لم أكن أعرف أن غيابى سيطول ويصبح قسرياً، بعدما شاءت الأقدار وباعدت الحرب بينى وبين أبنائى وأهلى وجيرانى وأحبتى وأصدقائى وزملائى، وشوارع غزة وأزقتها وحاراتها، وحكاياتها وتفاصيلها كلها بمفارقاتها المدهشة، لم أتوقع أن تندلع حرب بتلك الوحشية، التى حصدت أرواح أقارب وأحباء، ودمرت كل أشيائى وأشياء غيرى فى غزة، التى أضحت خراباً، وأرضاً يستوطنها الحزن والجوع والنزوح والضياع، طاحونة الحرب تأكل غزة، بشراً وحجراً وشجراً، كل يوم نودع الشهداء، وكل لحظة نتابع رحلة نزوح جديدة لأبنائنا وأهلنا، يقهرنا العجز والأسى واللوعة، لم أعِش ما عاشته غزة، مسقط رأسى، غير أننى أستمع إلى تفاصيل مؤلمة لحد الذهول والصدمة والغرابة، قيل لى مراراً «احمد الله أنك لم تعش تلك اللحظة وما تبعها من نكبة لا تشبه أى نكبة»، ربما هم أعلم منى بتلك الأيام الثقال، فوحدهم من يتقلب على لظى تلك المقتلة، وجمر انتظار الخلاص الذى لم يأتِ بعد، عِشت حروباً مغايرة فى غزة من ذى قبل، أكلت ركبتى بفعل رصاص الظلاميين القتلة، الذين أحدثوا ذلك كله بفعل النزق المدمر، لكننى بقيت فى غزة أعانى ألم الإصابة والاعتقال المتكرّر، رغم أنه أتيحت لى فرصة التوجّه إلى رام الله من المشفى، الذى كنت أرقد فيه بعيداً عن غزة وقتذاك، غير أننى آثرت أن أوجّه سائق المركبة الذى جاء ليقلنى إلى قطاع غزة، بدلاً عن رام الله، مما أثار استغرابه وأخذ يلومنى.
■ ألا ترى أن خروجك من غزة وعدم بقائك فى هذه الحرب نعمة من الله؟
- نعم، لكن ما قصدته هو أن أسأل نفسى هل لو كنت فى غزة لآثرت البقاء أم المغادرة كمن غادرها عذراً وقسراً، يقولون لى إن كل ما مر من حروب كان لا شىء قياساً بما هم فيه الآن، أصدقهم القول، لكننى أيضاً لا أعرف ما الذى كنت سأشعر به لو عِشت تلك اللحظات المهولة، وانتظار الموت على الطرقات، وتمنى الانعتاق، على أى حال هذا ما ساقته لى الأقدار، وما فعلت بى الأيام، ووضعتنى بعيداً عن عائلتى، أعد وإياهم أيام الحرب من أعوام الظلام، التى لم تغط فيها غزة من قبل.