من شجرة مريم بالمطرية إلى أشجار حدائقنا التراثية، تقف الأشجار التاريخية والتراثية المصرية، شامخة تتحدى الزمن بأعمار تتراوح بين 100 و2000 عام، وأصول تمتد أحياناً إلى الحضارة المصرية القديمة.
وعلى الرغم مما يشير إليه خبراء ومراقبون عن عدم قيامنا بالدعاية الكافية لهذه الأشجار، فإن بعضها يجذب سياحاً من مختلف أنحاء العالم، كما هى الحال مع «شجرة مريم»، التى تظللت بها العائلة المقدسة خلال رحلتها لمصر، وتعتبر نموذجاً مثالياً لما يمكن أن تمثله شجرة من قيمة تاريخية وحضارية لبلد ما، وما يمكن أن يترتب على ذلك من جذب سياحى ودخل قومى لهذا البلد.

وثمة «ثروة هائلة من الأشجار التاريخية» المهمة الأخرى التى ترتبط بفترات وأحداث وشخصيات مميزة فى تاريخ مصر، ومع ذلك تبدو غير مستغلة ولا يكاد يشعر بها غير المتخصصين، وسط مطالبات بضرورة حصرها وتسجيلها، وحمايتها، وزيادة التوعية بأهميتها التاريخية والبيئية والاقتصادية، ووضعها على الخريطة السياحية، والترويج لها محلياً وعالمياً، وهو ما تكشف عنه «الوطن» فى هذا التحقيق.
من بين بقاع سياحية مهمة حرص السائح الفرنسى دانيال ديل، على أن يزورها فى مصر مؤخراً، كانت «شجرة العذارء مريم» الشهيرة فى المطرية، التى تشير الروايات التاريخية إلى أنها تعود لتوقيت رحلة هروب العائلة المقدسة إلى مصر، حيث استظلت بها طوال ثلاثة شهور عند بقائها فى المطرية.

لم تكن تلك هى المرة الأولى التى يقصد فيها «دانيال»، وهو أستاذ جامعى فرنسى، موقعاً سياحياً بغرض مشاهدة شجرة لها تاريخ قديم ومميز، فقد سبق وذهب، حسبما يروى، لزيارة شجرة فى مقاطعة نورماندى فى فرنسا، يقال إنها أقدم شجرة بالمقاطعة.
خلال حديث معه، بينما كان يزور شجرة مريم فى المطرية بصحبة سياح من جنسيات أوروبية وآسيوية وأفريقية، حكى «دانيال» أيضاً أنه حين سافر إلى أمريكا اللاتينية، وتحديداً دولة بوليفيا، حرص أيضاً على زيارة مكان به شجرة تاريخية، قالوا له إنها أقدم شجرة فى الأمريكتين «الشمالية والجنوبية». وانطلاقاً من إدراكه لـ«أهمية وقيمة الأشجار، كجزء من تقدير الأوروبيين لها ولدورها وأهميتها»، يؤكد دانيال أنه «إذا كانت هناك جولة سياحية لمشاهدة الأشجار التاريخية والتراثية المصرية فقط فإنه سيلتحق بها، خاصة مع ما تتمتع به مصر من تاريخ وحضارة يجعلها تضم عدداً من أقدم الأشجار أو الأنواع الشجرية».
«شجرة مريم» تتحدى الزمن
شجرة مريم بالمطرية التى تجذب سياحاً من مختلف أنحاء العالم، تعتبر نموذجاً مثالياً لما يُمكن أن تمثله شجرة من قيمة تاريخية وحضارية لبلد ما، وما يمكن أن يترتب على ذلك من جذب سياحى ودخل قومى.
تعود قيمة الشجرة أساساً، كما يقول وحيد سمير، مفتش الآثار بمنطقة شجرة مريم: «لكونها كانت جزءاً من مسار رحلة العائلة المقدسة فى مصر، عندما هربت السيدة مريم والسيد المسيح ويوسف النجار من هوريدوس ملك الرومان، وجاءوا من فلسطين إلى مصر، حيث مروا بعدد من النقاط، كان بينها المطرية حيث كانت الشجرة قائمة».
يشرح مفتش الآثار المسئول عن هذه البقعة التاريخية، كيف أن شجرة مريم الآن فى حقيقة الأمر عبارة عن 3 شجرات من نوع أشجار الجميز المعمر الذى يمكنه العيش لنحو 800 سنة. الشجرة الأولى والأقدم هى التى جلست تحتها العائلة المقدسة خلال فترة إقامتها فى المطرية التى امتدت نحو 3 شهور. وإذا كانت الشجرة الأولى قد ماتت، حسبما يوضح «وحيد»، فإنها لم تنقرض، وتفرعت منها شجرة ثانية ظلت موجودة إلى أن جاءت الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798، وأصاب بعض جنودها مرض جلدى دفعهم للجوء لعصارة الشجرة بحثاً عن الشفاء، وعندما تم لهم ذلك، كتبوا أسماءهم بالسيوف عليها، وهى الكتابات الموجودة للآن.
«وحين ماتت الشجرة الثانية، خرجت منها الشجرة الثالثة التى لا تزال حية وشاهقة الارتفاع، ومثمرة أيضاً، فى تأكيد واضح على قُدرة الشجرة الأم على الاستمرار وخلق أجيال جديدة منها».

لذلك، حسبما يضيف «وحيد»، فإن: «الشجرة تستمد أهميتها منذ قرون مضت، وقد زارها أشخاص مهمون، مثل المؤرخ المقريزى الذى كتب عنها، وإمبراطورة فرنسا أوجينى، حين جاءت لمصر لحضور احتفالات افتتاح قناة السويس».
ومن حسن الحظ كما تشير روايات أخرى ربما تمزج بين الحقيقة والأسطورة، عن فشل محاولات سابقة لقطع الشجرة، كان من بينها، حسبما يروى مفتش آثار المنطقة: «محاولة خلال الستينات من جانب المقاول المسئول عن بناء مساكن مجاورة، والذى حدثت مشكلات له، ما اضطره للابتعاد عنها»، لتظل شجرة مريم بقيمتها التاريخية والحضارية تجذب سياحاً من مختلف أنحاء العالم حتى يومنا هذا.
اهتمام عالمي و«دعاية غير كافية»
ويعتقد منير غبور، رئيس جمعية إحياء التراث المصرى التى نفذت ومولت مشروع تطوير منطقة شجرة مريم، أن هذه الشجرة هى الأهم بين «الأشجار التاريخية المصرية»، حيث يزيد عمرها على 2000 سنة، مشيراً إلى اعتقاده أن استمرارها حتى الآن يعتبر «معجزة».
ويلفت «غبور» النظر إلى أنه «يوجد فى متحف اللوفر الشهير فى فرنسا قسم يتضمن قرابة 15 لوحة لشجرة مريم، رسمها فنانون فرنسيون، كما أن هناك فرنسيين يأتون مصر خصيصاً لمشاهدة هذه الشجرة»، قائلاً: «الأجانب بيهتموا بتراثنا، ونحن لم نهتم بعمل الدعاية الكافية لهذا المكان». وأشار إلى أن «جمعية إحياء التراث الوطنى، مهتمة بتطوير هذه البقعة، واجتذاب سياح لها»، كاشفاً عن أنها «قامت بعمل أيقونات بجوار الشجرة تحكى قصة رحلة العائلة المقدسة لمصر، وزرعت أشجاراً ونباتات، لجعل المكان مُبهجاً للناس، كما تسعى لإزالة عمارتين تفصلان الشجرة عن الكنيسة المجاورة التى تضم المخبأ الذى لجأت إليه العائلة المقدسة، وذلك لإعادة ربط المنطقتين وزراعة المكان، ليكون أكثر جذباً للسياح».
ثروة طبيعية «غير مستغلة»
لا يقتصر الأمر بالطبع فيما يتعلق بالأشجار التراثية فى مصر على «شجرة مريم» الشهيرة فقط، وإنما «توجد ثروة هائلة من الأشجار التراثية»، حسبما تؤكد الدكتورة مها فاروق، أستاذ ورئيس قسم بحوث الأشجار الخشبية والغابات بمعهد بحوث البساتين التابع لمركز البحوث الزراعية.
وتُعرف الدكتورة مها فارق «الأشجار التراثية» باعتبارها نوعاً من «الآثار الطبيعية»، التى تشمل «الأشجار ذات الأعمار والأحجام الكبيرة التى تعدى عمرها المائة عام، وتُعتبر عنصراً بارزاً ومهيمناً على المناظر الطبيعية، ومعلماً من معالم منطقة أو مدينة».
من بين هذه الأشجار، وفقا لأستاذ الأشجار، ما تعدى عمره مئات السنين، مثل شجرة مريم التى يصل عمرها لأكثر من 2000 عام، وهناك أيضاً، حسبما تضيف «فاروق»: «ما تم زراعته من قرن إلى قرن ونصف أو أكثر، مثل شجرة جزيرة الزمالك (فيكس التين البنغالى)، التى زرعها الخديو إسماعيل بعد أن جلبها من الهند عام 1868، وفى نفس العام كان إنشاء حديقة الزهرية فى نفس المكان بالزمالك لتكون المكان الأول الذى يستقبل كل ما يُستورد من الخارج من نباتات زينة وأشجار».
وتُعتبر «مصر عامرة بالأشجار التراثية المتميزة والتى تتمتع بنمو جيد وأحجام كبيرة، ومنها أنواع نادرة على المستويين المحلى والدولى، وهذه الأشجار موجودة فى حدائق نباتية وعامة، منها على سبيل المثال حديقة حيوان الجيزة، والتى بها مئات الأنواع النباتية والشجرية التى تعتبر تراثية، وأيضاً حديقة الأورمان، والحديقة النباتية بأسوان، وحديقة أنطونيادس بالإسكندرية، وغيرها من الحدائق القديمة الموزعة فى الجمهورية، ومنها حدائق منطقة القناطر الخيرية، وبعض الشوارع والميادين، مثل شوارع منطقة المعادى، وأشجار كورنيش النيل ومداخل المدن».
لكن هذه «الثروة» من الأشجار التاريخية والتراثية «لا تزال غير مستغلة الاستغلال الأمثل من النواحى السياحية والثقافية والاقتصادية، كما هى الحال فى أوروبا والغرب»، وذلك حسبما يؤكد الدكتور السعدى بدوى، أستاذ الزينة وتنسيق الحدائق بجامعة القاهرة، ومستشار وزير الزراعة الأسبق لشئون الحدائق، وعضو لجنة الحدائق التراثية بالجهاز القومى للتنسيق الحضارى، الذى يشير إلى أن «النموذج المثالى الوحيد لدينا الآن هو شجرة مريم، وذلك لارتباطها دينياً بأن السيدة العذراء استظلت بها هى والسيد المسيح، خلال زيارتهما لمصر».
أما بخلاف شجرة مريم، كما يضيف بدوى: «فلدينا أشجار كثيرة قديمة موجودة فى الحدائق التراثية، مثل حديقة الأورمان التى يعود تاريخها لسنة 1873، وغيرها، والناس يدخلونها دون أن يشعروا بها، إلا إذا كان الزائر متخصصاً، فيلتفت لها. والوضع لم يصل لدرجة الاهتمام كما الحال فى الخارج، حيث يهتمون بالأشجار التاريخية كأنهم يزورون «مقام شيخ»، ويتعاملون معها باعتبارها شبه مقدسة، وذات تأثير فكرى وروحى وثقافى وسياحى، وهو ما نفتقده نحن الآن».

أشجار تراثية بجذور فرعونية
ولعل ما يزيد من أهمية وجاذبية أشجارنا التاريخية والتراثية، ويدعو لمزيد من الاهتمام بها وتسويقها سياحياً، ما يشير إليه الخبراء عن الأصول التاريخية لجانب من هذه الأشجار، التى تمتد لعهد المصريين القدماء.
هذه الأصول يؤكدها الدكتور مجدى بهنسى، باحث أول بقسم بحوث الأشجار الخشبية والغابات بمعهد بحوث البساتين، وعضو اللجنة المُشكلة من مركز البحوث الزراعية لصيانة أشجار حديقتى الحيوان والأورمان، مشيراً إلى أن قدماء المصريين اهتموا بالأشجار وزراعتها كجزء من اهتمامهم بالزراعة التى قامت عليها حضارتهم.
ومن ضمن الأشجار التى كان المصريون يهتمون بها ويستخدمونها فى احتياجاتهم، سواء فى إنتاج الأخشاب لعمل الأدوات الزراعية، أو لإنتاج الأثاث، والنوافذ أو الأبواب، حسبما يلفت «بهنسى»، شجر السنط المعروف باسم أكاسيا أرابيكا، وأشجار «العبل أو الأتل»، التى كانوا يزرعونها ليصنعوا منها الأدوات المستخدمة فى الزراعة وتطويرها آنذاك، بجانب أشجار «الصفصاف» التى ثبت وجودها فى المقابر فى حضارة «مرمدة بنى سلامة»، شمال الجيزة.
ويلفت الباحث بقسم بحوث الأشجار، النظر أيضاً إلى «شجرة مهمة جداً، كانت موجودة أيام المصريين القدماء أيضاً، وهى شجرة البرساء التى كان يستخدمها القدماء المصريون فى عمل الأكاليل الجنائزية للموتى، وكانوا يهتمون بها جداً فى طقوسهم الدينية، وما زالت موجودة للآن فى حدائقنا النباتية ومنها حديقتا «الزهرية» و«الأورمان».
ويؤكد الدكتور أحمد عبدالدايم، مستشار الأشجار الخشبية والغابات بمعهد بحوث البساتين بمركز البحوث الزراعية، أن هناك بالفعل بعض أنواع الأشجار الخشبية ضاربة بجذورها فى عمق التاريخ المصرى القديم، وهى أنواع مصرية أصيلة وبنت البيئة وتنمو حتى الآن بصورة برية، مثل «السنط النيلى»، و«الهجليج أو بلح العبيد»، بالإضافة لـ«الدوم» وهو من الأشجار التراثية المحلية التى استخدمها المصرى القديم فى الأغراض العلاجية والغذائية.
أما بقية أنواع الأشجار الخشبية، كما يضيف مستشار الأشجار الخشبية، فكلها مُستجلبة من الخارج، وإن كان بعضها تم استجلابه أيضاً منذ أيام الفراعنة الذين كانوا يستجلبون أشجاراً من الخارج ويزرعونها، كالجميز الذى ظهر فى الآثار المصرية القديمة، حسب تأكيده.
وبجانب ما سبق، تأتى «الأشجار التى استوردتها أسرة محمد على، والتى كان أمراؤها وملوكها يجلبونها معهم أيضاً من زياراتهم للخارج، بما فى ذلك من المناطق الاستوائية، ويزرعونها كأشجار زينة فى قصورهم المنتشرة فى أنحاء مصر، حيث أنشأوا بعض الصوب المُكيفة كما فى قصر القبة بالقاهرة، وحديقة أنطونيادس بالإسكندرية، لتلائم نمو بعض النباتات والأشجار».

الحدائق النباتية.. متاحف أشجارنا التراثية
الحديث عن الأشجار التاريخية والتراثية فى مصر يستدعى بالضرورة أيضاً الحديث عما يُعرف بـ«الحدائق النباتية والتراثية» التى تضم جانباً كبيراً ومميزاً من هذه الأشجار، وينظر لها المتخصصون باعتبارها أداة مهمة للحفاظ عليها.
فحسبما يؤكد الدكتور أحمد عبدالدايم، أستاذ الأشجار الخشبية والغابات، فإن «الحدائق النباتية» هى: «حدائق علمية وتراثية فى الأساس، لها دور مهم، دون غيرها، فى حفظ الأصول الوراثية لأشجارنا التاريخية والتراثية لتتوارثها الأجيال، إلى جانب طبعاً مهمة تعليم الأجيال الجديدة، وهى بذلك تختلف عما يُعرف بالحديقة العامة، التى تُعتبر أساساً حديقة للتنزه».
ويوضح أستاذ الأشجار أن «أى مادة نباتية قادمة من خارج مصر، يفترض أن تسجل فى الحديقة النباتية، ويتم زراعتها بها، ويؤخد منها عينة لحفظها»، مضيفاً: «بسبب طبيعة هذه المهمة الخاصة للحدائق النباتية، فإنه يجب أن يديرها متخصصون فى علم الفلورا (وهو العلم الذى يهتم بالتعرف على النباتات فى الكرة الأرضية وتعريفها وتسميتها طبقاً لصفاتها وتركيباتها الوراثية)، وذلك لجمع البذور والأصول الوراثية، ونشرها وإكثارها».
وأعلنت الدولة قبل سنوات عزمها تطوير عدد من هذه الحدائق النباتية والتراثية، وبدأت بـ«حديقة أنطونيادس»، التى «تضم مجموعة من أندر وأشهر وأعتق الأشجار والنخيل على مستوى العالم، والتى جاءت إشارة البدء لتطويرها فى أغسطس ٢٠٢٢، وشهدت العديد من مشروعات التطوير للحفاظ على معالمها التاريخية وزيادة كفاءتها البيئية».
وحسبما تقول د. أمانى إسماعيل، مشرف فرع بحوث الزينة وتنسيق الحدائق بحديقة أنطونيادس، فى دراسة لها عن الحديقة أشرفت عليها د. حنان يوسف، رئيس قسم بحوث الزينة بمعهد بحوث البساتين، فقد «أظهر تطوير حديقة أنطونيادس كيف يمكن للحدائق أن تكون أكثر من مجرد مساحات خضراء، بل مراكز جذب سياحى ومساهمات فعالة فى الاقتصاد».
ولا تزال تجرى عمليات «تطوير» أخرى لعدد من الحدائق النباتية الهامة، فى مقدمتها حدائق «الحيوان» و«الأورمان» و«الزهرية»، لكن وسط مخاوف يبديها بعض المختصين، الذين فضلوا عدم ذكر أسمائهم، من احتمال أن تؤدى الأعمال التى تجريها بعض الشركات أو المقاولين للإضرار بمعالم هذه الحدائق وبعض أشجارها التاريخية، لا سيما مع عدم قدرتهم على الاطلاع على تفاصيل ما يجرى من الداخل.
وقد اتصلت «الوطن» بالدكتور شريف شديد، المدير التنفيذى للشركة المسئولة عن تطوير حديقتى الحيوان والأورمان، فى محاولة لطمأنة هؤلاء الأكاديميين، والتعرف على المعايير التى يتم على أساسها التطوير، ومدى مراعاته للحفاظ على الأشجار التاريخية، حيث وعد بإرسال أرقام المكتب الإعلامى للشركة للترتيب لذلك، وهو ما لم يحدث، رغم معاودة الاتصال به أكثر من مرة، وإرسال رسالة نصية له لتذكيره.
لكن الدكتور مجدى بهنسى، عضو اللجنة المُشكلة من مركز البحوث الزراعية لصيانة أشجار حديقتى الحيوان والأورمان، أكد لـ«الوطن» أن «عمليات التطوير الجارية فى الحديقتين لم تمس أياً من الأشجار التاريخية أو النادرة بهما»، مشيراً إلى أنهم سبق وقدموا توصيات رسمية للشركة القائمة بالتطوير، حول ما يجب فعله للحفاظ على هذه الأشجار التراثية.
وأوضح «بهنسى» أنهم كتبوا توصياتهم تلك فى تقرير رسمى أكد أنه: «ممنوع المساس بالأشجار التاريخية، أو الحفر بجوارها، إلا بعد الابتعاد عنها بمسافة لا تقل عن 3 إلى 4 أمتار، وفى حالة الحاجة للتقليم يكون ذلك تحت إشراف اللجنة».
لكن فيما يتعلق بالأورمان تحديداً قال «بهنسى» إنه «نظراً لأنهم يقومون بشق طريق يدور حول الحديقة لوضع الخدمات من مياه وكهرباء، سيتم تفادى الأشجار التاريخية الكبيرة القديمة التى ستقابلهم فى هذا الطريق، فيما سيتم نقل الشجيرات الحديثة إلى أماكن أخرى داخل الحديقة».
دليل تطوير الحدائق التراثية
وفى محاولة لإرساء قواعد لتطوير حدائقنا التراثية مع الحفاظ على ثروتها من الأشجار التاريخية، أعد «الجهاز القومى للتنسيق الحضارى» دليلاً بعنوان «أسس ومعايير التنسيق الحضارى للحفاظ والارتقاء وإدارة الحدائق ذات الطابع المعمارى المتميز»، جرى اعتماده من المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية، بتاريخ 28 سبتمبر 2021، وصدرت الطبعة الأولى منه يناير 2022.
ويعترف الدليل، الذى أعدته لجنة من الخبراء، أنه «خلال النصف الثانى من القرن العشرين، ساد الإهمال الحدائق العامة والمناطق الخضراء فى مصر، خاصة حدائقنا التراثية التى تعانى التدهور والتآكل فى المساحة والقيمة، وذلك تحت وطأة التنمية العمرانية المتسارعة وغير العابئة بالقيم الحضارية والتراثية».
وفى المقابل، يقدم الدليل «خارطة طريق للتعامل مع الحدائق التراثية، وصونها، والحفاظ على كافة مكوناتها، ليست المعمارية فقط، وإنما ما تحتويه من نباتات وأشجار»، وذلك حسبما يشير المهندس محمد أبوسعدة، رئيس مجلس إدارة الجهاز القومى للتنسيق الحضارى، فى مقدمة الدليل.
ويضع الدليل منهجاً لرصد وتسجيل وتوثيق الحدائق ذات الطابع المعمارى المتميز، وتحديد أساليب التعامل معها تبعاً لقيمة وحالة كل حديقة وخصائصها، ووضع توجيهات إرشادية للحفاظ عليها، ومن بينها وجوب «حماية العناصر النباتية وصيانتها من المؤثرات الخارجية والعوامل الضارة، ما يزيد من الفترة العمرية لها»، و«السماح للقطاع الخاص بحق الانتفاع من الحديقة شريطة الحفاظ على القيمة التاريخية».
وقد أعطى القانون صفة إلزامية لهذا الدليل، حيث نصت المادة 29 من قانون البناء رقم 119 لسنة 2008 على أن يتولى الجهاز القومى للتنسيق الحضارى: «وضع الأسس والمعايير والدلائل لأعمال التنسيق الحضارى التى يتولى اعتمادها المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية، ويجب على الجهات الإدارية المختصة الالتزام بها عند إصدار التراخيص للأعمال ذات الصلة بالتنسيق الحضارى، وذلك طبقاً لأحكام هذا القانون ولائحته التنفيذية والاشتراطات المقررة لإصدار التراخيص».
لكن مع ذلك تبدو هذه الصفة الإلزامية محل شك أحياناً على الأقل، وذلك فى ضوء ما قالته مصادر مطلعة على مجريات «التطوير» فى حديقة الزهرية التى تعود لعصر الخديو إسماعيل، من أن «الشركة القائمة على التطوير هناك لا تبدو مهتمة باتباع ما جاء فى إرشادات دليل الجهاز القومى للتنسيق الحضارى، وربما لا تكون على دراية به»، داعين لضرورة إلزامهم بذلك.
وقد حاولت «الوطن» ترتيب لقاء مع الدكتور محمد أبوسعدة، رئيس الجهاز القومى للتنسيق الحضارى، لمواجهته بهذه التفاصيل واستيضاح الأمر منه، حيث وعد بالفعل فى اتصال هاتفى بترتيب لقاء معه وإبلاغ معد التحقيق بالموعد، إلا أن ذلك لم يحدث، رغم محاولة الاتصال به لاحقاً عدة مرات، وإرسال أكثر من رسالة نصية له.

شروط ومحاذير
لكن الدكتور السعدى بدوى، أستاذ الزينة وتنسيق الحدائق بجامعة القاهرة، وعضو لجنة الحدائق التراثية التى أعدت الدليل السابق، يعتقد أنه «لا توجد حماية قانونية كافية لأشجارنا التاريخية، فى الوقت الذى لو فقدنا فيه شجرة منها فإنه لن يمكن تعويضها».
يقول «بدوى»: «إذا تم قطع شجرة من هذه الأشجار فإننا نفقد عُمراً وتاريخاً، حتى لو زرعوا مكانها 10 شجرات، فذلك لن يعوضها، لأنها قيمة تاريخية وعمر لا يمكن تعويضه، كما أن الأجيال تتعلم من نمو الأشجار وكيف تصل لهذا العمر بهذا الشكل، وطبيعة نموها، ولذلك فإن أشجار الحدائق النباتية يجب ألا تُمس أيضاً بعمليات تقليم، إلا إذا كانت مُصابة، والأشجار المصابة يجب محاولة علاجها».
ويستدرك أستاذ الزينة وتنسيق الحدائق، قائلاً: «للأسف هناك أشخاص تريد تحقيق مصالحها وخلاص، بصرف النظر عن القيمة التاريخية والتراثية لمثل هذه الأشجار»، وضرب مثلاً بحديقة الميريلاند فى مصر الجديدة: «حيث قام المقاول بقطع أشجار كثيرة، لأنه كان يريد عمل باركنج، فى حين أنه يُمكن عمل جراج بدون قطع الأشجار أو الإضرار بها، وليس شرطاً استغلال 100% من المساحة، ويجب أن تُفعل الأجهزة الرقابية فى هذه الأمور، ويكون هناك تغليط للعقوبات فى هذه الحالات»، حسب تأكيده.
وحول القواعد الواجب اتباعها فى عمليات «التطوير» التى تتم على الحدائق النباتية والتراثية، قال: «على كل من يريد التدخل فى عمليات المحافظة أو تطوير الحدائق التراثية، أن يطلع على الدليل الذى أعده جهاز التنسيق الحضارى، لأنه عبارة عن منهج يجب أن يتبع لكيفية الحفاظ عليها، يتضمن أولاً وجوب تسجيل كل ما بالحديقة، وعدم قطع أو اقتلاع شجرة، وعدم هدم مبنى، وبناء مبنى حديث مكانه»، مؤكداً أنه «لا بد أن تكون هذه القواعد مستقرة، لأننا بلد عريق وتاريخى، ويجب أن يكون هناك انضباط فى التعامل مع هذه الأشياء».
وأضاف: «يجب تسجيل كل شجرة موجودة بالصورة وتحديد شكلها، وعدم التدخل لتغييره، وحماية الأشجار بكل الطرق، وعلاج أى إصابات بها، والبعد عن الحفر فى أماكن قريبة من جذورها، مع الاستعانة بالمتخصصين للمساعدة، لأن المتخصص سيفيدهم ولن يضرهم، خاصة أنه ليس كل العاملين فى هذا التطوير على دراية بسلوكيات النبات وكيفية نموه»، مضيفاً: «الاستعانة بالمتخصصين سيفيد القائمين على التطوير ويفيد البلد أيضاً، بحيث لا تُحقق فائدة للمستثمر فقط.. لأن المستثمر يريد أن يُحقق مكاسب، ومكاسبه يجب ألا تأتى على حساب التراث».
وشدد الأستاذ بزراعة القاهرة وعضو لجنة الحدائق التراثية، على أنه يجب أن تكون هناك لجنة متخصصة تقوم بزيارات ومتابعات دورية لما يتم من أعمال داخل الحدائق، لافتاً إلى أنه «تحدث مع المهندس محمد أبوسعدة، رئيس الجهاز القومى للتنسيق الحضارى، عن ضرورة تنظيم مثل هذه الزيارات على أساس أن تكون مجريات الأمور هناك تحت العين والسيطرة»، حسب تعبيره.
وعلاوة على ما سبق، قال: «لا بد أن تكون لدينا أيضاً هيئة من المتخصصين الذى يعرفون قيمة هذه الحدائق للإشراف عليها، ولا تكون خاضعة لوزارة الزراعة، لأن الوزارة لديها أوامر عليا وقرارات، وربما يكون مَن أصدر القرار لا علاقة له بالموضوع ولا يدرك أهميته، ويجب أن تكون هذه الهيئة لديها القوة أو السلطة اللازمة لوقف أى تدخل ضد الأشجار».
وأعرب أستاذ تنسيق الحدائق أخيراً عن اعتقاده بـ«إمكانية إرساء منهج يدمج بين الحفاظ على الأشجار التاريخية، ولا يتعارض مع الاستثمار»، قائلاً: «نحن لسنا ضد الاستثمار إطلاقاً، بل نشجعه، ووجود حديقة تاريخية هو فى حد ذاته استثمار ومكسب كبير، إذا تمكنا من تسويقها بشكل صحيح بأهداف علمية وثقافية وتاريخية وترفيهية، وبما يحافظ على هذه الحدائق».
فى انتظار قانون لحماية أشجارنا التراثية
وفى السياق نفسه، تعتقد د. مها فاروق، أستاذ ورئيس قسم بحوث الغابات والأشجار الخشبية بمعهد بحوث البساتين، ومعها العديد من أساتذة القسم، أن «غياب قانون خاص بالأشجار عموماً فى مصر ومن بينها الأشجار التراثية، وحمايتها، كان سبباً فى الارتباك فى التعامل معها وتدهور أوضاع بعضها، وضياع جانب منها على مر السنين، وعدم الاستفادة منها، رغم أهميتها الحضارية والتاريخية والبيئية والجمالية والاقتصادية».
وتؤكد هبة معتوق، المستشار الإعلامى لوزارة البيئة لـ«الوطن» أنه «لا يوجد نص خاص فى قانون البيئة حالياً يتكلم عما يُعرف بالأشجار التاريخية والتراثية، إلا من زاوية الحفاظ على التنوع البيولوجى»، مضيفة: «يمكن البحث فى قانون الزراعة».
وبقراءة قانون الزراعة، اتضح أنه لا توجد به نصوص أيضاً عن الأشجار عموماً أو الأشجار التراثية، اللهم إلا فيما يتعلق بتنظيم زراعة الأشجار على جانبى الترع والمصارف العمومية، وتتضمن «غرامة لا تزيد على 100 قرش» فيما يخص القرارات الصادرة بهذا الشأن.
وتلفت الدكتورة مها فاروق، أستاذ ورئيس قسم بحوث الغابات والأشجار، النظر إلى أن أساتذة وأعضاء قسم بحوث الغابات والأشجار، شرعوا قبل نحو 30 عاماً فى إعداد مشروع قانون خاص للغابات والتشجير ينص على إنشاء هيئة قومية للغابات والتشجير»، وحاولو مراراً الدفع باتجاه إصداره، إلا أنه لم يُقدر له أن يرى النور حتى الآن، حسب قولها.
وقد اطلعت «الوطن» على آخر نص تم إعداده لهذا المشروع، وهو يشير إلى أن من بين أهدافه «تجميع جميع الخبرات فى هيئة واحدة تقوم بإعداد وتنفيذ خطط التشجير ومتابعتها، وحصر الأشجار والغطاء النباتى وتدقيقه بصفة دورية لإنشاء قاعدة بيانات صحيحة متوافقة مع الواقع، والتخطيط السليم والإدارة الجيدة لكل نشاطات التشجير والغابات، وتجريم قطع الأشجار».
وتلفت «فاروق» النظر هنا إلى أن «هيئة الغابات والتشجير» المُشار إليها يمكن أن تكون هى المنوط بها إقرار أن شجرة ما تعتبر تراثية، وفى حال تم إقرارها يتم عمل سجل إلكترونى ولوحة مميزة لها بكود خاص على الشجرة، ليعرف الجميع أنه ممنوع المساس بها، ويتم توقيع أكواد هذه الأشجار على خرائط كل مدينة، ليتعرف عليها المهتمون من علماء أو طلبة أو سائحين.
وأضافت: مصر ليست أقل من دول حولنا لها قانون مستقل مختص بالغابات والتشجير فقط، ومُدرج تحته كيفية الاهتمام والحفاظ على الأشجار التاريخية، ودمجها فى برامج السياحة الثقافية والبيئية لتعظيم العائد السياحى.
خطة لحماية أشجارنا التراثية
وبجانب ما سبق، تُقدم الدكتورة مها فاروق، أستاذ ورئيس قسم بحوث الغابات والأشجار الخشبية بمعهد بحوث البساتين، تصوراً لكيفية التعامل مع أشجارنا التاريخية والحفاظ عليها وتعظيم الاستفادة منها، مشيرة إلى أنه يمكن وضع جانب من هذا التصور فى القانون المنتظر الخاص بالأشجار، أو لائحته التنفيذية.
يبدأ هذا التصور، بحسب «فاروق»: «بوضع خطة عاجلة لحصر كل هذه الأشجار كأشجار تراثية وتسجيلها فى وثائق رسمية قومية، مع إرسال صورة هذه الوثائق لكافة الوزارات والهيئات ذات الولاية على أماكن وجود هذه الأشجار، للعلم والمحافظة عليها، وعدم اتخاذ أى إجراء بشأنها إلا بالعرض على المختصين».
وتلفت أستاذة الأشجار النظر إلى أنه بعد إدراج الأشجار فى وثائق رسمية كأشجار تراثية مسجل بها صور الأشجار ومعلومات عنها ومن قام بزراعتها وبياناتها وأهميتها، يمكن عمل كتيب أو الاستعانة بأى وسيلة حديثة لعرضها مع نبذة عن الحقبة التى زرعت فيها ومكانها على الخريطة وربطها بالأماكن السياحية الأخرى والأشخاص البارزين فى تاريخ البلد وقتها، والأحداث الهامة التى شهدتها، وعرض ذلك ضمن البرامج السياحية الثقافية والبيئية.
إجراءات عاجلة لازمة
ولحين إقرار قانون مستقل للتشجير وحماية واستغلال أشجارنا التاريخية، يبقى هناك حسبما يذهب معظم الخبراء، الكثير من الإجراءات العاجلة التى يمكن اتخاذها، ومن بينها البدء فوراً بحصرها وتسجيلها وتوجيه الأجهزة التنفيذية بحمايتها، وزيادة توعية المصريين والأجيال الجديدة بقيمتها وأهمية الحفاظ عليها، ووضعها على الخريطة السياحية، وإعداد خطط للترويج لها محلياً وعالمياً.