والد الطفل السورى «إيلان» يروى لـ«الوطن» قصة الهروب إلى الموت

كتب: محمد أبوضيف

والد الطفل السورى «إيلان» يروى لـ«الوطن» قصة الهروب إلى الموت

والد الطفل السورى «إيلان» يروى لـ«الوطن» قصة الهروب إلى الموت

«وكأن البحر وسادة، ومياهه سريره الصغير»، يقول عبدالله شنو الكردى، والد الطفل «إيلان» الذى لقى حتفه غرقاً أثناء محاولة أسرته السورية الهرب من تركيا إلى اليونان، هكذا اعتاد «عبدالله» رؤية نجله كل صباح داخل غرفته الصغيرة، على ذلك الوضع كان يحلو له النوم، وعليه أراح جسده النحيل على رمال الشاطئ التركى بعدما فاضت روحه لربها غريقاً تتناقله الأمواج أمام عينى والده. لم تترك «ريحانة» زوجة «عبدالله» طفليها «إيلان»، الذى يبلغ من العمر 3 سنوات، و«غالب»، الذى يبلغ من العمر 4 سنوات، وحيدين، لكنها رحلت معهما إلى مثواها الأخير، تاركة الأب المكلوم وسط أمواج البحر يصارع الموت، حتى أنقذته القوات التركية، ليعود لبلدته فى «عين العرب» ليوارى أجساد نجليه وزوجته الثرى، وولى وترك للعالم صورة من وحشية سلكت مسارها للأراضى السورية منذ أعوام مضت، وأخذت مداها إلى مراكب الموت فى هجرة غير شرعية مقيتة، أودت بحياة أسرته كاملة.

{long_qoute_1}

يجلس «الكردى» الشهير باسم نجله الأكبر «أبوغالب» فى منزله الريفى فى منطقة عين العرب، التى تقع تحت سيطرة الأكراد، بعدما بقى وحيداً يتذكر بين الحين والآخر صورة نجله «إيلان» وهو تتناقله الأمواج غريقاً، وابنه «غالب» وقد بدا الزبد يظهر من بين شفتيه، وهو يقف عاجزاً لا يملك من أمره شيئاً، سوى الدعاء: «يا الله.. يا الله»، هكذا يروى لـ«الوطن» حكايته عبر الهاتف، التى بدأت من دمشق العاصمة السورية التى وُلد وتربى فيها وتزوج من ابنة عمه «ريحانة»، وعمل حلاقاً هناك أيضاً، فهو رغم أصوله الكردية فإنه لا يعرف لغتها، ولم يكن يداوم على زيارة «عين العرب» إلا مرات قليلة.

■ ما ظروف رحيلك عن دمشق؟

- كنت أعيش بالشام، وكان وضعى مستقراً، أعمل بالحلاقة، ومتزوج ولدى طفل، وزوجتى حامل، وليس لدىَّ أى مشكلة، وليس لى علاقة بما يدور من أحداث، ولكن أحدهم دخل علىَّ المحل ذات ليلة، وطلب منى تبرعات لبعض الجرحى والمصابين من الثوار، الذين سقطوا جراء المواجهات مع قوات الأمن، بدافع إنسانى ليس إلا، دفعت له بعضاً من النقود، ولكن ما لم أكن أتوقعه أن يكون الشخص نفسه مخبراً للمخابرات السورية، ورفع تقريراً يفيد بمساعدتى للثوار، وقبض علىَّ، ولكن بعد تحقيقات كثيرة، تركت سوريا عائداً لـ«عين العرب» مسقط رأسى.

■ وماذا بعد عودتك إلى «عين العرب»؟

- رغم أننى كردى الأصل وجميع ضياعنا وأراضينا فى «عين العرب» فإننى لم آلف حياة الريف، ولم أستطِع أنا وزوجتى «ريحانة» التأقلم معها، فحتى اللغة الكردية لا أستطيع التحدث بها، ومَن تربى فى حياة المدينة لا يستطيع تحمل حياة الريف، فقررت البحث عن عمل، خاصة أن مهنة الحلاقة لم تدر علىّ مالاً فى الأرياف كما كانت فى دمشق، فقررت البحث عن عمل آخر، وذهبت إلى مدينة على الحدود التركية تسمى «التل الأبيض»، وهناك عملت فى إحدى شركات الاستيراد والتصدير، بين تركيا وسوريا، حلاقاً للسائقين الأتراك، ولكن الوضع لم يستقِم هناك طويلاً، فالحرب وضعت أوزارها، واضطررت للعودة مرة أخرى لـ«عين العرب».

{left_qoute_1}

■ متى سافرت إلى تركيا؟ ولماذا؟

- بعد العودة لـ«عين العرب» ومع استمرار ويلات الحرب لم أجد عملاً، فبحثت كثيراً ولكن دعانى أحد أصدقائى للسفر إلى اسطنبول والعمل هناك، وقد كان حيث سافرنا ووجدت عملاً مناسباً، ولكن لم يكن كافياً لتربية الأولاد، ورغم ذلك وجدت أن الوضع سيكون أفضل حالاً من الاستمرار فى سوريا، وكنت أتقاضى 650 ليرة تركية، وهو ما يقابل 200 دولار، مقابل العمل فى الحياكة «الخياطة»، وكنت أسافر كل شهر لزيارتهم، ولكن سرعان ما انتقلت الحرب إلى «عين العرب» وكان علىَّ نقل أولادى وزوجتى إلى تركيا للعيش معى.

■ كيف كانت حياتك فى سوريا بعدما نقلت إليها أسرتك؟

- الحياة كانت صعبة، فـ800 ليرة تركية لا تكفى لحياة أسرة فى بلد مثل تركيا، وكان علىَّ البحث عن مصدر دخل آخر، ولكنى لم أجد، خاصة أننى أعامل كلاجئ وليس صاحب البلد، ولكن بالاتصال مع شقيقتى التى تعيش فى كندا وتحمل الجنسية الكندية، فقد تكفلت بدفع إيجار المنزل كجزء من البحث عن حل لمعاناتى، ولكنها استمرت، فلا تستطيع شقيقتى أن تدفع إيجار المنزل طوال العمر، ففكرت شقيقتى فى التقدم بطلب للحصول على تأشيرة لدخول كندا لأعمل وأعيش أنا وأسرتى هناك بدلاً من تركيا.

■ كيف دبرت تكاليف السفر إلى كندا؟

- استطاعت شقيقتى «فاطمة» التى تعيش فى كندا توفير تبرعات من بعض الأسر التى تعيش هناك، والتى تكفلت بجميع مصاريف سفرى إلى كندا، ولكن السفارة الكندية للأسف رفضت حصولى على التأشيرة، ومن بعدها قطعت الأمل بكندا.

■ هل اقتصر حلم السفر على كندا وحدها؟

- لا بالطبع بل استمر حلم السفر إلى أى دولة تحترم حقوق اللاجئين وتحترم حقوق المعيشة، وخاصة فى أوروبا، وقدمت طلباً للأمم المتحدة «UN» للحصول على حق اللجوء فى إحدى الدول الأوروبية، لكنها أهملتنى عاماً ونصف العام، خاصة أن حالتى من الحالات التى تستحق أن توضع على أولوياتهم، رغم أنهم دائماً ما يتحدثون عن أن السفر يكون حسب الحالات الأكثر معاناة وأولوية.

■ صِف لنا معاناتك وقتها؟

- لم تكن معاناتى مجرد ضيق الرزق فحسب، لكن ولدى «غالب» و«إيلان» كانا مريضين بمرض جلدى نادر، يتطلب علاجاً، فجلدهما يطلى بالسواد كل يوم إذا لم يأخذا علاجهما فى وقته «لو ما دهنوش الكريم يصير جسمهم كله أسود»، وهى ظروف من المفترض أن تضعنى فى أولويات «UN» لكنهم تجاهلونى عاماً ونصف العام.

■ ماذا عن تجاربك السابقة للسفر قبل رحلة الموت الأخيرة؟

- بالاتصال مع شقيقتى «فاطمة» فى كندا، ساعدتنى فى تدبير أموال للسفر البرى عبر منطقة «درنة» إلى بلغاريا، ومن هناك نحو ألمانيا، التى سبقنا إليها شقيقى الأكبر، ورافقنى فى الرحلة شقيقى ونجله، وشاهدنا خلالها الموت بأعيننا، فكان الموت قريباً جداً، ولكنها فشلت بسبب عبور أحد الأنهار بين تركيا وبلغاريا، حيث كان اندفاع المياه شديداً جداً، وللأسف لم أستطِع عبوره، وأعادتنى الأمواج إلى الشاطئ التركى مرة أخرى، واستطاع أخى العبور، لكن عاد مرة أخرى بعدما قبضت عليه حرس الحدود البلغارية.

{left_qoute_2}

■ رغم أنك شاهدت الموت بعينيك فى الرحلة الأولى.. لماذا عاودت الكَرَّة؟

- (يبكى ويترحم على ابنيه): لما رجعت من الرحلة الأولى قلت لا يوجد حل سوى العبور عبر البحر، ورغم صعوبة الرحلة فإننى كنت مصراً على الذهاب لأوروبا، رغبة فى حياة أفضل لأولادى.. (يصمت حيناً، ويعاود الترحم عليهما ويتمالك نفسه، ويقول إنه قرر الهجرة وحده وليس مع عائلته، ودبرت له شقيقته «فاطمة» مصاريف السفر، وقبل السفر بأيام استطاع الحصول على بعض الأموال التى تكفيه وأسرته للسفر، فقرر أن يصطحبها معه، ورغم صعوبة الرحلة وخوفه عليهم، فإنه وجد فى المخاطرة ثمناً كافياً، ليرحمهم من هَم البعاد، وعدم استقرار الوضع فى تركيا، بجانب أن إجراءات لم الشمل ستطول.. يسكت حينها ويعاود القول إنه الآن نادم ولكن لم يعد ينفع الندم».

■ كيف بدأت الرحلة؟

- بدأت الرحلة بالتعرف على أحد سماسرة الهجرة، عبر أحد الأصدقاء، الذى أوهمنى بأن المركب سيكون كبيراً وآمناً، ولكن حين وصلت للشاطئ فى منتصف الليلة مع أسرتى وجدته قارباً صغيراً لا يكفى سوى 5 على الأكثر، وحمل بها أكثر من 12 مهاجراً بخلاف سائق المركب نفسه، لم يمر سوى خمس دقائق وجاءت إحدى الأمواج العاتية فكادت تقلب دفة المركب، ففر المهرب وترك قيادة المركب وعاد إلى الشواطئ التركية، وعلى الفور قمت بالتوجه إلى دفة المركب لأقوده لكن لم يمهلنى القدر حيث جاءت موجة أقوى فقلبت المركب رأساً على عقب.

■ وكيف مرت تلك اللحظات عليكم داخل الماء؟

- «الله لا يوريك اللى شُفته ولا بتمناها لبنى آدم، ومش ولادى بس وزوجتى اللى ماتوا لوحدهم، فيه طفلين تانيين ماتوا همّا كمان، وظللت أصارع الأمواج، جمعت أسرتى حول القارب، لنتشبث به، فأملى فى النجاة بأسرتى لم ينقطع، حاولت أن أنزل تحت الماء لأدفعهم فوق كى يتنفسوا، ولكن أمر الله نفذ، فشاهدت «غالب» وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وفارق الحياة، حاولت إنقاذ «إيلان»، لكنه كان قد غرق فى المياه، وحين عدت إلى زوجتى، كانت قد سلمت أمرها لربها، ظللت ثلاث ساعات، أصارع الأمواج وأنا أبكى ولا أجد شيئاً أقوله سوى «يا الله يا الله»، ودفعتنى الأمواج بعيداً عن القارب، مما صعَّب من مهمة المنقذين الذين ظلوا يبحثون عنى أكثر من ساعة، ست ساعات قضيتها داخل الماء، 3 أحاول إنقاذ أسرتى حتى فارقوا الحياة واحداً تلو الآخر أمام عينى، و3 أخرى أبكى, وتركت جسدى للماء لأموت معهم، ولكن كان أمر الله أكبر من رغبتى «لو تعطينى الكرة الأرضية ما بدى إياها... حياتى كلها راحت مع أسرتى».

■ كم استمرت عملية الإنقاذ؟

- كنت آخر مَن تم انتشاله من الماء، استمرت عملية البحث عنى قرابة الساعة، بعدما جرفتنى الأمواج بعيداً عن القارب، رفعت يدى أكثر من مرة، ولكن بُعد المسافة صعَّب من مهمتهم، ولم يرونى إلا بصعوبة بعد فترة كبيرة من الوقت، ولكن فى النهاية أنقذونى، وخرجت ونقلونى إلى المستشفى وبعد 24 ساعة، أخبرونى بأنهم انتشلوا جثامين أسرتى فذهبت للتعرف عليهم.

■ متى رأيت صورة «إيلان» التى هزت العالم؟

- حتى الآن لم أشاهدها إلا مرة أو مرتين على الأكثر، تذكرنى بلحظاتى معه كل صباح، كانت تلك نومته المفضلة، يخيل إلىَّ كأنه نائم على سريره الصغير، حين أدخل عليه كل صباح، وأعطيه موزة ليأكلها، كانت دائماً أمه تدفعه ليصحينى كل يوم، كان الأكثر مرحاً من شقيقه الأكبر، وأكثر جرأة، رحمه الله.

■ هل ترى أن صورة «إيلان» من الممكن أن تحدث فارقاً فى قضية اللاجئين السوريين؟

- أتمنى من كل قلبى أن تحرك صورة «إيلان» ضمير العالم، وأن تكون هناك حلول واضحة لأزمة اللاجئين السوريين، وخاصة العرب، فنحن سوريون وعراقيون وكننا ننظر للعرب ولكنهم خذلونا.

■ هل هناك أى تحرك دولى تجاه ما حدث لك ولأسرتك؟

- كل ما حدث هو بعض العروض التى قدمتها لى الحكومة الكندية بالحصول على الجنسية ووظيفة، بعد تقديمهم اعتذاراً لشقيقتى «فاطمة» التى تعيش هناك، ولكنى رفضت كل ذلك، كما منحنى الرئيس التركى الجنسية التركية، ولكنى أيضاً أرفضها، لن أتقاضى ثمن أولادى وأسرتى.

■ أين تستقر الآن؟ وهل ستعاود محاولة السفر مرة أخرى إلى أوروبا؟

- أنا أعيش الآن فى مدينة عين العرب «كوبانى» لتشييع جثامين أسرتى، ولن أرحل عنها قبل أن أطمئن على شقيقتى المنهارة منذ أن شاهدت ابن شقيقها غريقاً على الشاطئ التركى، «لم أقرر حتى الآن العودة لأوروبا، ولا أعرف هل سيكون الطريق متاحاً ولا سيلاقى نفس مصير أسرتى، مصدوم ومش عارف أفكر.. كل إلى أنا شايفه أطفالى وزوجتى غرقى فى مياه البحر».

■ فيمَ تفكر الآن؟ وماذا تخطط لأيامك المقبلة؟

- كل ما أفكر فيه هو أن أعيش بالقرب من قبر زوجتى وأولادى، أقرأ لهم القرآن، وأعيش على ذكراهم، ولن أتزوج، ولن أنجب أطفالاً مرة أخرى ليتعرضوا لما تعرض له «إيلان» و«غالب»، كل ما أفكر فيه هو أن تكون لقضية أسرتى شأن كبير أستطيع من خلاله مساعدة اللاجئين.

■ مَن يتحمل وزر ما حدث لأسرتك؟

- الحكومة الكندية هى من تتحمل فهى السبب الرئيسى فى وفاة أسرتى، حيث إنها رفضت إعطائى التأشيرة، بدل المرة خمس مرات، رغم أن شقيقتى تعيش هناك وتحمل الجنسية الكندية، وكمان الأمم المتحدة اللى قدمت من خلالها طلب الهجرة كانت على علم بحالتى لكنها ما قدمتش لى أى عون، حالتى صعبة للغاية، ما كانش معى فلوس، وما كنتش عارف أصرف على أسرتى قبل ما يروحوا عند ربهم.

■ من تواصَل معك من الدول العربية؟

- لم يتصل بى ويعزينى سوى المصريين وكويتى واحد ولبنانى فقط، والبقية من الغرب، كان لهم الاهتمام الأكبر.

■ وما رأيك فى الموقف العربى من القضية السورية؟

- موقف مخزٍ للغاية، لا أحد يساعدنا، ويعاملوننا كلاجئين فى كل البلدان، رغم أننا كنا أول من نقف مع أى دولة فى أزماتها، وعمرنا ما عاملنا العرب كأغراب فى بلادنا.

■ هل تجد أن ما حدث من تحرك لمشاعر العالم تجاه صورة «إيلان» سيجد طريقه تجاه الحكومات؟

- أتمنى ذلك، وإلا تكون قد ضاعت أسرتى هباء.

 

 

 


مواضيع متعلقة