شهادة وفاة العرب

عام 1998 كتب الشاعر نزار قبانى قصيدة بعنوان: «متى يعلنون وفاة العرب؟»، انتظر العرب كثيراً حتى خرج من بين ظهرانيهم من يجيب عن هذا السؤال. ففى هذا العام فقط (2015) -أى بعد ما يقرب من 17 عاماً- تم تحرير شهادة الوفاة على يد الطفل السورى «إيلان» الذى مات غريقاً بالقرب من سواحل تركيا فى رحلة البحث عن مكان يلجأ إليه. أخيراً كتب «إيلان» شهادة وفاة العرب فى مشهد لن تنساه ذاكرة البشر لجثته البريئة وهى ملقاة على شواطئ تركيا، وستظل شاهدة على تلك الأمة التى ماتت ولم يعد يجدى معها أى كلام، تلك الأمة التى لم تكتف بالسكات على ما يحدث لأهالى سوريا، بل وساهمت منذ اللحظة الأولى لاندلاع ثورة السوريين، قبل أربع سنوات، فى ذبحهم داخل وخارج سوريا.

كل العرب ساهموا بطريقة أو بأخرى فى هذه المأساة الإنسانية متكاملة الأركان، المنابذون لنظام «بشار» ومن يزعمون أنهم يقفون فى مواجهته شاركوا فى ذلك من خلال دعم الميليشيات التى استغلت صرخة المواطن السورى من أجل البحث عن حياة أفضل، فاستثمرت الفرصة وحملت السلاح، ولم تفرق الرصاصات الطائشة والأصابع الآثمة التى لا ترجو خيراً لسوريا ولا للإسلام بين المواطن الحالم بمجتمع حر يحترم الإنسان، وجنود بشار الذين جعلوا من جماجم السوريين جسوراً يعبرون عليها إلى معاندة ميليشيات الإرهاب، والدول العربية الخليجية المساندة لها، تلك التى تبذل المال الوفير فى تجهيز القتلة وتزويدهم بأدوات القتل وتدفع ثمن إجرامهم، فى الوقت الذى تبخل فيه بدولار واحد على اللاجئين السوريين الذين يفرون من جحيم الموت برصاصات النظام أو رصاصات الميليشيات الإرهابية إلى الموت فى صقيع الخيام أو غرقاً فى البحار.

ليس المنابذون لبشار وفقط، بل الداعمون له كذلك، ساهموا هم الآخرون فى تعميق جراح سوريا وأهلها، هؤلاء الذين لم يرضوا عن فكرة الربيع العربى، وفرحوا بمحمحة الدم التى يشهدها هذا البلد، وجعلوا منه أمثولة على المصير الذى كان ينتظر الشعوب التى ثارت على الحكام المستبدين والفاسدين، تسفيهاً لحق البشر فى طلب الحرية والكرامة، وتحقيراً لفكرة الثورة، وتحفيزاً لهم على العودة من جديد إلى حظيرة الطاعة، دون أن يبدو منهم أى ضجر أو تململ، وإلا فإن مصير سوريا سيكون فى انتظارهم. ولست أدرى هل سكوت العرب، وخصوصاً على مستوى الأنظمة الحاكمة، على عملية السحق الممنهج للمواطن السورى، داخل وخارج بلاده، سببه الاجتهاد فى «تبشيع» صورة الثورة وفكرتها، أم أن الأمر يعبّر عن حالة من حالات انعدام الإنسانية، لدى شعوب وحكام الأمة العربية؟!

مات العرب، وكُتبت شهادة وفاتهم عندما غرق «إيلان» فى مياه تركيا، وسوف تبقى حكايته شاهداً على شعوب واصلت السكوت على الفساد والاستبداد عقوداً طويلة، وعندما استفاق قطاع منها من غفوته وحاول التغيير، جوبه بحكام على استعداد لفعل أى شىء من أجل البقاء على كرسى السلطة، وجماعات خرجت من رحم الجهل والعنف السائد، وأخذت تبحث عن فرصة لوراثة المستبدين التقليديين باستبداد أشد قسوة، ومجموعات عريضة من المغفلين الذين رأوا فى الخضوع سبيلاً وحيداً للنجاة، فى زمان يمكن وصفه بزمان «الطيش العربى».. هذه الأمة ماتت والسلام!.