«الوطن» تقضى يوماً كاملاً مع الصيادين: «غربتنا ملهاش تمن»

كتب: عبدالفتاح فرج وعبدالله مشالي

«الوطن» تقضى يوماً كاملاً مع الصيادين: «غربتنا ملهاش تمن»

«الوطن» تقضى يوماً كاملاً مع الصيادين: «غربتنا ملهاش تمن»

توجد عدة طرق رسمية وغير رسمية للوصول إلى مياه بحيرة ناصر، أغلبها من خلال موانئ الصيد الثلاثة الموجودة على شاطئ البحيرة الغربى، وهى ميناء أسوان، وجرف حسين، وأبوسمبل، والطرق غير الشرعية متعددة وكثيرة، ويصعب السيطرة عليها بسبب طول الشاطئ فى الجانبين الذى تزيد مساحته على 5 آلاف كيلومتر، فضلاً عن أن هناك دروباً جبلية وطرقاً وعرة قريبة من البحيرة، تساعد المهربين على تهريب الأسلحة والحيوانات النادرة والتماسيح بجانب الأفارقة الذين يرغبون فى الهجرة إلى إسرائيل.تمكنا من الوصول إلى أحد أخوار البحيرة، وركبنا مركباً لأحد الصيادين، حتى وصلنا جزيرة صغيرة جداً وسط مياه البحيرة، وهناك التقينا ببعض الصيادين الذين تحدثوا عن معاناتهم، وأوضاعهم المعيشية السيئة داخل وخارج البحيرة.يقيم هؤلاء الصيادون فى عشة خشبية صغيرة، وسط الجزيرة التى تحيطها مياه البحيرة من جميع الجوانب، وأمام العشة توجد بعض القوارب الخشبية الصغيرة التى تعمل بالمواتير، يعمل عليها أطفال تتراوح أعمارهم ما بين 7 و12 سنة فقط، مع آبائهم الصيادين ليخلفوهم فى مهنة الصيد.تسرب الكثير منهم من التعليم ليمتهنوا مهنة الآباء المتعبة والشاقة، يمكث هؤلاء فى مياه البحيرة مدة تزيد على 90 يوماً، لا يرون فيها إلا الأسماك والمياه، ويقتاتون على طعام ردىء أفسدته درجات الحرارة المرتفعة، تتشابه أيامهم ولياليهم، يخافون من الثعابين والعقارب إن وطئت أقدامهم شواطئ البحيرة المترامية الأطراف أثناء الهروب من ارتفاع منسوب المياه فى موسم الفيضان، ويخشون النزول بأجسادهم النحيلة إلى المياه شديدة النقاء خوفاً من هجمات التماسيح، حسب قولهم.يبلغ عدد المغتربين الذين يعملون فى الصيد بالبحيرة حوالى 75%، أغلبهم من محافظات سوهاج وأسيوط والفيوم، يعملون بنظام «النصف»، نصف الربح الأول لصالح الصياد والنصف الآخر لصاحب المركب.وجهُ دائرى به لحية سمراء، تعلوه طاقية بيضاء تحميه من أشعة الشمس الحارقة، ينظر صاحبه إلى أطراف أحد أخوار البحيرة المتسعة، ثم يوجه طفله إلى إحضار إحدى أدوات الصيد من داخل القارب ليستكمل عملية الصيد التى بدأها بعد أذان الفجر، يقول الصياد الثلاثينى علام عبدالرحمن، ابن محافظة سوهاج: «الصياد حالياً من أتعس فئات المجتمع لأنه يعمل 14 ساعة على مدار اليوم، ودخله غير محدد، يوم فى السماء وأسبوع فى الأرض، بعد تطبيق منظومة الخبز فى أسوان، رغيف العيش بقى بـ30 قرش، وأنبوبة البوتاجاز بـ25 جنيه، وكل يومين بنموّن صفيحة بنزين لتشغيل المواتير، أنا لو لاقى شغلانة تانية غير الصيد كنت اشتغلتها وما بعدتش عن أولادى ولا بهدلت ابنى محمد معايا فى قلب الميه زى ما انت شايف».من جانبه، يقول محمد أحمد إسماعيل، 50 سنة، الذى كان يستعد للذهاب إلى ميناء أسوان لحل أزمة الخبز وإحضار بعض متطلبات المعيشة لباقى الأفراد: «شغال فى الصيد من 25 سنة، ما نعرفش شغلانة غيرها، ولو قُدرَ لى العمل فى مهنة أخرى لن أبقى عليها أبداً، العيشة هنا صعبة جداً، بنقعد شهرين أو تلاتة فى البحيرة وننزل إجازة أسبوع واحد أو اتنين، بنقعد فى الجزيرة هنا عشان قريبة من أماكن الصيد بتاعتنا وبعيدة عن الثعابين والعقارب والزواحف السامة الأخرى، لكن مع زيادة منسوب مياه البحيرة فى موسم الفيضان أواخر شهور الصيف نضطر إلى الانتقال إلى الإقامة فى جبل الأصيل، لكن نفضل الإقامة هنا لأن المياه تعزلنا عن الزواحف الضارة والخطيرة».

{long_qoute_1}

يضيف «إسماعيل»: «بننقل حاجتنا كلها والخشب فى أسبوع كامل للبر، ولو واحد فينا اتلسع من العقارب أو الثعابين، بياخد زيت أكل أو ليمون عشان السم ما يوصلش القلب بيقعد تعبان 24 ساعة وبيكون كويس تانى، إنما لو انتظر عشان يروح مستشفى فى أسوان، هيكون مات لأن المشوار بعيد ومكلف فى نفس الوقت، عيشتنا هنا شاقة وصعبة جداً، ولا يتحملها أى مواطن، ارتفاع أسعار الخضراوات والسلع الأخرى يقابله انخفاض أسعار الأسماك التى نوردها للتجار، نبيع كيلو السمك (الشبار) بـ3 جنيه ونص، والسمك الكبير بـ11 جنيه، والنوع ده يباع فى أسواق أسوان بـ25 جنيه، كيلو الطماطم بـ10 جنيه دلوقت وبتكمل يومين بالعافية بسبب الحرارة الشديدة فى المكان، نصطاد هنا جميع أنواع أسماك البحيرة عشان نطلع يومياتنا، زى البلطى وكلب البحر والزمار، لكن هناك بعض الصيادين يصطادون أسماكاً صغيرة جداً بشباك ضيقة، مخالفين قانون الصيد وبذلك يقضون على المخزون الاستراتيجى للبحيرة، ويساعدهم على ذلك شراء التجار أى أنواع من السمك وقد يقوم الآخرون بتهريبه من خلال الشاطئ خارج الميناء».داخل العشة الخشبية الصغيرة كان يجلس بخيت أحمد إسماعيل، رجل أربعينى يميل لون بشرته إلى السُمرة، تحدث بصوت مرتفع تملؤه المرارة: «متوسط يومية الصياد هنا بعد 14 ساعة أو يزيد من الشغل 30 أو 40 جنيه، فيه أيام ممكن أصطاد فيها طول النهار مابجيبش حق المعسل والشاى، وممكن يوم ربنا يكرمنا ويعوضنا فيه، الصيد شغلانة رزق وصبر، إحنا قاعدين هنا ومستحملين سوء العيشة والحر عشان ورانا مسئوليات فى سوهاج، مش هنقدر نروح البلد إلا لما يكون معانا فلوس، وبنجيب عيالنا الصغيرين عشان يشربوا الصنعة من دلوقت لو ما نفعوش فى المدرسة».يضيف «بخيت»: «ممكن نصطاد فى اليوم 10 كيلو سمك بس لو بعناهم بنكسب 30 جنيه أول عن آخر، غربتنا مالهاش تمن، أنا أعرف ناس ما بتروحش إلا كل 6 شهور مرة، وفيه ناس تانية ماروّحتش بلدها من 3 سنين، بيبعتوا فلوس لأسرهم وهما هنا، عاملين زى اللى مسافرين برة مصر، باصرف على 18 فرد أنا وأخويا الصياد، ورزقنا يوم بيوم، ولو تعبنا هنا بناخد أى حاجة عشان التعب يخف لأن أى مشوار لأسوان هياخد 200 أو 300 جنيه، تمن أجرة العربية».يلتقط محمد عبدالرحمن، من مركز جهينة محافظة سوهاج، أطراف الحديث من زميله، قائلاً: «يقيم فى العشة 4 صيادين، كل مجموعة هنا قاعدة مع بعضها، فى جزر متفرقة داخل المياه، الصياد من أكثر الفئات تضرراً فى مصر، نبيع السمك للتجار بربع السعر الذى يشتريه المستهلك، والنسبة الباقية يحصل عليها التجار بسهولة، لكن إحنا اللى بنتعب ونشقى، وبنصطاد بالليل والنهار فى ظروف ربنا أعلم بيها، إحنا بنشترى كل أسبوعين 4 كيلو غزل بـ500 جنيه، لو التمساح عدى فيها مرتين بتبوظ على طول وبتكون بسيسة وطبعاً إحنا مديونين للتجار».وعن خطورة التماسيح فى البحيرة يقول عبدالرحمن «كنت أصطاد فى أحد جوانب البحيرة منذ يومين، ورأيت تمساحاً على الشاطئ، نحن نخاف منه دائماً لأنه يستطيع الفتك بأى صياد فى ثوانٍ قليلة كما حدث مع بعض زملائنا منذ شهور، ونحن نائمون فى الليل نخشى هجومه علينا داخل العشة، ولا نستطيع الاستحمام فى مياه البحيرة خوفاً من هجماته السريعة فهو يتربص بأى شخص ينزل للمياه، وتبلغ أحجام بعض التماسيح حوالى 5 أمتار، وهو يأكل كميات كبيرة من السمك يومياً تزيد على 50 كيلوجراماً، وأعداده زادت فى الفترة الأخيرة لأن الدولة منعت صيده».«عبدالرحمن»، نفى وجود بعض العناصر الخطرة والمهربين فى المنطقة التى يصطاد بها قائلاً «أماكن الصيد مقسمة على الصيادين مثل البيوت التى لا يوجد فيها غرباء، لكن مافيات التهريب من الممكن أن توجد فى جنوب البحيرة بجوار الجبال الوعرة، وإذا رأينا أحد المهربين أو البلطجية فى البحيرة سنبلغ عنهم لأننا سنتضرر منهم فى المقام الأول».ويتابع: «إحنا بنشتغل حسب السمك، لو ماجبناش سمك، هنقيّل ونطلع تانى، ممكن نطلع 5 مرات فى النهار والليل، لحد ما نتلايم على اليومية ونطلع أكلنا وشربنا ومصاريف الصيد».ويقول أحمد حميدة: «عاوزين يقفلوا البحر، طب لما يقفلوه إحنا هناكل منين، لو عاوزين يقفلوه يعوضونا عن مدة القفل ويمنعوا البلطجية من الصيد فى هذه الفترة، تسويق السمك الصغير والزريعة أصبح حراً، ولا يطبق القانون ضد المخالفين، نطلب من الدولة توفير زريعة فى البحيرة لزيادة إنتاج الأسماك، الصياد فينا بعد سن الخمسين ما بيقدرش يشتغل وبيقعد فى البيت، أنا شغال حالياً ولا أكفى مصروفات بيتى، ولا يوجد تأمين صحى علينا، أنا ضيعت 300 جنيه على عينى من كام يوم عشان كانت تعبانة جداً».يشكو هؤلاء الصيادون أيضاً من نقص الطاقة وعدم معرفة أخبار الدولة؛ بسبب عدم وصول إشارات موجات الراديو إليهم بسبب بعدهم عن مدينة أسوان، وهو ما يضطرهم إلى شراء بطاريات جافة لشحن تليفوناتهم المحمولة، فى الوقت الذى قام فيه بعض الصيادين الآخرين بشراء أجهزة ريسيفر وتليفزيونات يتم تشغيلها من خلال مولدات كهربائية صغيرة، حسب وصف الصيادين.


مواضيع متعلقة