ليلة إعدام «عرفات» رمياً بالرصاص

كتب: هيثم البرعى

ليلة إعدام «عرفات» رمياً بالرصاص

ليلة إعدام «عرفات» رمياً بالرصاص



يشبه عم «عرفات» القوس، لا يفرد طوله إلا لشربة ماء أو لأداء فريضة.. منذ أيام فرد الرجل الخمسينى طوله مدافعاً عن «أكل عيشه» فانحنى للأبد.. لم يكن ألماً كان موتاً، مد جسده المنهك على الأرض غارقاً فى الدماء.. مزقته رصاصات معجونة بالدم والظلم والجشع والسطوة والنفوذ، قبل أن تكون معجونة بالبارود.
أيام «عرفات» عادية جداً وبسيطة مثل ابتسامته.. هكذا تبدأ.. يمارس عمله فى ورشة الخراطة الخاصة به، بنزلة البطران بالهرم، لا يعكر صفو حياته شىء.. شارعان يفصلان بين ورشته ومنزله حيث يقطن مع زوجته وأطفاله.. يستيقظ فجر كل يوم لأداء الصلاة فى وقتها.. يبتغى وجه الله فى عمله سعياً وراء الكسب الحلال.. ويبدأ عمله فى الثامنة صباحاً وينتهى منه فى الثامنة مساءً.. يعمل معه فى ورشته عاملان، كان هو سبباً فى كسبهما المال.. محبوب من جيرانه.. سمعته طيبة وسيرته لا تأتى فى غيبته إلا بالخير.. عرفات فرج محمد، 57 عاماً، أو كما يعرفه أهل المنطقة بـ«عرفة». ينتهى من عمله فى الثامنة مساءً.. يتوجه إلى منزله، يجد أمامه أطفاله، ملابس رثة من أثر العمل.. لا يجد أبناؤه حلاً لتخفيف معاناته سوى مداعبته وإطلاق النكات.. بدوره ينتهز الفرصة لإطلاق ضحكة من أعماق الشقاء والكد اليومى.. تزوج مرتين ولديه 6 أبناء، 3 ذكور و3 إناث.. تزوجت إحدى بناته.. وتخرجت أخرى فى جامعة خاصة، وبقيتهم فى مراحل التعليم المختلفة.. يخلد لنومه فى العاشرة مساء، استعداداً ليوم جديد من عمل لا يرحم.
يحرص على لم شمل الأسرتين فى المناسبات والأعياد.. إفطار فى شهر رمضان، أيام العيد تجتمع الأسرتان، للاستمتاع بالطقوس.. كلمته المعتادة «أنا بتعب فى شغلى كتير.. بس طالما بتحبوا بعض أنا مرتاح».. الآن ارتاح «عرفات» للأبد..
أنت الآن فى الهرم وتحديداً فى شارع زغلول العام.. بينما يأخذك المسير إلى منطقة ورش خراطة.. 5 ورش متراصة بجوار بعضها.. أصوات الماكينات لا تهدأ إلا مع حلول الليل.. «عرفات» صاحب إحدى الورش، فى عام 1985 استأجرها بموجب عقد إيجار مفتوح وغير محدد، تم إبرامه مع «أحمد عبدالجواد البطران» وهو من عائلة ذات صيت ونفوذ.. كانت المعاملة بينهما حسنة لا تشوبها شائبة.. حتى توفى الأخير.. فجمع القدر بين ورثته و«عرفات» فى فصول أزمة متشابكة كُتبت لها نهاية مأساوية.. وإن نظرت خلف صف الورش، ستجد فيلتين تابعتين لأبناء عائلة البطران.. تم بناؤهما منذ قرابة عام واحد.. وفجر ثالث أيام عيد الفطر الماضى، كانت بداية أول فصول الواقعة.

{long_qoute_1}


فجر ثالث أيام العيد، حيث فترة الإجازة الطويلة للعاملين بالورش، الهدوء والصمت يعمان المكان، لم يكسرهما سوى ضجيج لودر، وصل إلى المكان، وبدأ فى هدم وإزالة الورش رأساً على عقب، لم تستغرق تلك العملية سوى ربع ساعة، استفاق أهالى المنطقة على ضجيج تساقط جدران الورش على المعدات بداخلها.. أحد الأهالى يجرى اتصالاً بأصحاب الورش، ومنهم «عرفات»: «تعالَ يا عم عرفات الورش كلها اتهدت.. كان فى لودر هنا ومشى».. فى منزل «عرفات» سادت حالة من الضجر والانزعاج، وهرع إلى مكان ورشته حيث وجدها أنقاضاً، طيلة حياته لم يعرف للشر سبيلاً.. اكتفى بالدعاء والتضرع إلى الله ممزوجين بالبكاء على مصدر دخله الوحيد.. وفى صبيحة اليوم التالى علق لافتة على أنقاض الورشة، كُتبت عليها عبارة «حسبى الله ونعم الوكيل.. اللهم أهلك الظالمين بالظالمين».. بعدها توجه إلى قسم شرطة الهرم، لتحرير محضر بالواقعة، وتم إثبات الحالة بموجب عقود الإيجار، وتم إحالة المحضر إلى النيابة العامة، حيث أصدرت أمراً بالضبط والإحضار لكل من «عادل وإخوته حسن ومحمود ومحمد».. بيد أن الأمر لم يُنفذ طيلة 20 يوماً.
20 يوماً مرت على الرجل الخمسينى وباقى أصحاب الورش، كأنها 20 سنة، اتفقوا فيما بينهم على تقسيم أنفسهم على فترات لحراسة أنقاض الورش، والمعدات التى بداخلها، «عرفات» أكثرهم بقاء أمام الورشة، تشاهده يتنقل من مكان لآخر هرباً من أشعة الشمس الحارقة، رافضاً مغادرة المكان.. طالباً العون من العقلاء وكبار المنطقة للتدخل لدى خصومه من أجل وضع حل للأزمة القائمة.. الوضع داخل منزله كان بائساً مثيراً للشفقة.. أعطاه أولاده أموالاً كانوا يدخرونها.. باعت إحدى بناته مصوغاتها الذهبية، من أجل سد العجز فى الدخل بعد ما حدث.
عدد من الأهالى، عقدوا ما يُشبه «الجلسة العرفية»، من أجل التوصل لحل بات، وخلصوا إلى ضرورة دفع مبالغ لتعويض أصحاب الورش، ورغم قلة المبلغ المحدد لكل منهم، 50 ألف جنيه، وافقوا على مضض، حتى جاء موعد الاستلام صباح اليوم التالى.. كانت صدمتهم من «عادل»، حيث أبلغهم أنه لن يدفع لأى منهم أكثر من 30 ألف جنيه.. وما لبث أن تراجع بقوله «وأنا أدفع ليه إحنا السلطة والنفوذ وممكن أطلعكم من هنا بدون تعب!!».. لم يبالِ أصحاب الورش، بما قيل لهم، وأصروا على المُضى قدماً فى حماية «أنقاض» الورش والمعدات الخاصة بهم.. صباح يوم السبت الماضى الموافق 15 أغسطس الحالى، شرع أصحاب الورش بمن فيهم «عرفات» فى إعادة بناء الجدران، لإعادة تشغيل الورش مرة أخرى، وبالفعل، انقضى نهار اليوم، وفرغ العمال من البناء، واستعدوا لصباح يوم الأحد حيث بداية العمل مرة أخرى.. الساعة الحادية عشرة والنصف مساء، كان «عرفات» برفقة «شوقى» شقيق زوجته، دار بينهما حديث قصير، وقال عرفات «يا شوقى أنا لازم أشتغل تانى، بيتى أتخرب، وبدل ما كنت أدى أولادى أنا باخد منهم.. أنا مش معايا فلوس فى جيبى ومش عارف آكل، إزاى هجيب أكل لبيتى؟».. لم يجد «شوقى» رداً.

{left_qoute_1}


الساعة تُشير إلى الثالثة والنصف من فجر الأحد الماضى، يتبادل «عرفات» وصديق له، دور الحراسة وحماية الورش، بحلول أذان الفجر، حيث موعد الفصل الأخير من تلك المأساة.. يمزق سكون الليل صوت «لودر»، يتجه ناحيتهم، يفزعون لاستطلاع الأمر، اللودر مقبل من أحد المحاجر القريبة، على بعد أمتار منهم ارتطمت مقدمة اللودر فى «مطب أسمنتى»، ليصدر ضجيجاً، يبدأون فى الإشارة للسائق، طالبين منه التروى ومعرفة الأسباب، بدأوا فى إلقاء الحجارة عليه أصابت الحجارة الزجاج الأمامى للودر، بالقرب من اللودر يسير شخصان هما «عادل البطران» وشقيقه «حسن»، يحملان أسلحة نارية، وأطلقوا النار تجاه «عرفات» ومن معه، حتى أُصيب بطلقات حية فى أماكن متفرقة بالجسد، ولفظ أنفاسه الأخيرة فى الحال وسط حالة من الذعر انتابت سكان المنطقة، الذين استيقظوا على أصوات الرصاص الكثيف.. «عادل» وشقيقه هربا على إحدى الدراجات البخارية التى كانت بحوزتهما، بينما تجرى محاولات لإنقاذ «عرفات» دون جدوى.
بالقرب من مكان الحادث، يتوقف ابن أحد أصحاب الورش بسيارته، كان ينوى قضاء وقت معهم بالقرب من الورش لحمايتها، إلا أنه رأى إطلاق النار فآثر التوقف بعيداً.. إلا أن وجوده كان مهماً حيث طارد «عادل» أثناء استقلاله الدراجة النارية، وتمكن من إسقاطه على الأرض، ووضعه داخل السيارة، ومن ثم تسليمه إلى قسم الشرطة.

{left_qoute_2}


بالعودة إلى مكان الحادث مرة أخرى، وصلت قوة من قسم شرطة الهرم بعد ساعات من الحادث.. قوة القسم انتقلت إلى مكان الحادث بعد تلقيهم اتصالاً من لواء بمديرية أمن الجيزة، وصل قبلهم إلى مكان الحادث، ووجه لهم تأنيباً حاد اللهجة فى الهاتف بسبب تأخرهم عن الوصول.. بحسب ما قالت «أمل عرفات» 23 سنة، ابنة المجنى عليه.
وتضيف «أمل»: «بابا مات ظلم.. مات شهيد بيدافع عن مكان أكل عيشه وعن ماله.. إحنا مالناش حد يسأل فينا، ولا يهتم بينا من بعده، مفيش غير وكيل النيابة هو اللى واقف معانا، وهو بيشوف شغله بالقانون.. إحنا بنتعرض لتهديد منهم عشان هما عيلة كبيرة، مالناش ظهر زيهم، هددونى بخطف إخواتى عشان نتنازل عن القضية، أنا بناشد الرئيس السيسى، عشان ينجدنا، إحنا مالناش حد غيره، هو مسئول عننا وعن أمننا.. بناشد وزير الداخلية يحمينا.. ويجيبلنا حق بابا، النيابة قررت حبس عادل ووجهت له تهمة القتل العمد، بس لسه فى متهمين هاربين، إحنا خايفين منهم».


مواضيع متعلقة