جمال الغيطانى.. شاب عاش ألف عام

نشوى الحوفى

نشوى الحوفى

كاتب صحفي

كغيرى أنا من العاشقين لأدبه، المفتونين باستغنائه، المتطلعين لفكره. أقرأ الزينى بركات وحكايات الخبيئة وحكايات المؤسسة ودفاتر التدوين، ولا أعلم أن يوماً سيربطنى القدر باسم ذلك الأديب.. جمال الغيطانى.

كانت البداية فى علاقتى به حينما ذهبت لإجراء حوار صحفى معه فى العام 2009 بمكتبه بـ«أخبار الأدب»، حيث لفت نظرى ذلك العالم الخاص الذى يهيمن على طقوس حياته. لا فى دنيا الكتابة وحسب ولكن فيما يتعلق برحلته فى عالم الأدب المقترن لديه بفكرة «الزمن»، ليكون المُتسائل دوماً: «ماذا يحدث لو لم يكن ما كان؟». تربطه بالزمن أفكار العتاقة وعشق التراث أياً كان منبعه. تنضح روحه بالحيوية، فيحدثك فى الموسيقى والصوفية وتصميم سجاد بخارى. يسدل الأفكار على كلماته، فتخرج رشيقة منمقة نادرة. يحكى فى الأدب والسياسة والعلم والفلسفة بعمق العالم. لا تعبث بذاكرته أفعال الزمن، فيواصل السرد ببراعة دون أن تتوه منه التفاصيل.

يومها حكى عن الكثير وتجاوزت جلستنا زمن الحديث، بدءاً من جهينة قريته التى ولد بها فى صعيد مصر وتعد قبلة الحنين فى مسيرته. قال لى عنها: «هى الركن الذى أتذكره وقت الوحشة، وأستعيده فى لحظة الاغتراب». ما زال قابعاً بوجدانه فى زمن الجمالية العتيق بالقاهرة حيث نشأ بين مدارك تكونت عبر قراءة قصص الخيال والبطولات ليصنع من تاريخها عالمه الخاص به إلى حد المعايشة لما يقرأ، وسؤال يتوالد بداخله منذ طفولة بسيطة مفاده: «أين ذهب الأمس؟».

سألته يومها: كيف سلك عالم الكتابة، فأجابنى: «جئت للعالم أديباً، لم يعلمنى أحد الأدب، ساعدتنى ذاتى على اكتشاف ذاتى». حقيقة تلك، فهو من جاء للعالم أديباً لم يدرس الآداب أو اللغات أو الفلسفة، ولكنه -لضيق ذات اليد- درس صناعة السجاد بمدرسة الفنون والصنايع وتخصص فى السجاد «البخارى»، لتمنحه تلك الدراسة عالماً آخر فوق عوالمه الأخرى وحكاية هائمة من حكايات عمره. فيعرف تاريخ العرب وقصصهم من صناعة السجاد العربى ووحداته الزخرفية، التى تحمل كل منها معنى، ويدخله عالم الصحافة ليوميات الجيش المصرى فى حرب الاستنزاف وأكتوبر 73، فيختلف مع الرؤساء ويؤمن بالجيش.

تتوطد العلاقة بيننا فى عالم الصحافة، ويمنحنى الكبير شرف المتابعة، حتى توليت إدارة النشر الثقافى «بنهضة مصر»، فيترك لى مهمة إصدار كتبه ورواياته ومجموعاته القصصية. يأتى ونتناقش ونفكر فى الأغلفة والإخراج الفنى للكتاب. يجلس بتواضع ويستمع ويثنى ويراجع ويفرح بنشر الكتاب فرحة شاب بأول إصداراته. يصر على ألا تقتصر إصداراته على تجديد ما مضى، فيكتب بدأب مسابقاً الزمن. تلك الفزورة التى لم يستطع سبر أغوارها رغم محاولاته. يقلقنى ذلك المجهود فى الكتابة، فأطلب منه التأنى، فيجيبنى بقوله: «لم يعد فى العمر الكثير أريد للكتابة أن تبقى»، يمنحنى من إبداعه مجموعته القصصية «يمام»، فنصدرها فى شهر ديسمبر الماضى ونحتفل بها فى «ديوان». يرسل لى بعدها رائعته الأخيرة «حكايات هائمة»، فأطير بها وننشرها قبل عيد مولده السبعين فى مايو الماضى ونحتفل بها وبه فى الأوبرا.

يغضب منى حين لا يستطيع الوصول لى على الهاتف، فأعتذر لانشغال أو طارئ، فيبرر الغضب بأنه صعيدى، فأقبل رأسه معتذرة فيضحك قائلاً: «بأزعل عشان مش بتردى عليه». أسمع خبر مرضه فأظن فى البدء أنها وعكة طارئة سيقاومها كعادته ليفيق منها ويواصل لعبته مع الزمن، ولكنها لم تكن. تهزمه تلك المرة أيام عمره التى فاقت ألف عام.. تجهده خبرات السنين وحكاياتها الهائمة فى عقله، أنظر له وأنا على يقين بأن مثله لا يعيش ألف عام.. بل ألف ألف عام.