الصوم عطاء

يحثّنا الله، على لسان إشعياء النبي، قائلاً: «أليسَ الصوم الذى أختاره يكون في فَكِّ قيود الشرِّ، وحَلِّ عُقَد النيِّر، وإطلاقِ سَراح المتضايقين، وتحطيم كُلِّ نَير؟ ألا يكون فى مُشاطرة خبزك مع الجائع، وإيواء الفقير المتشرِّد فى بيتك. وكسوةِ العُريان الذى تلتقيه، وعدم التغاضى عن قريبك البائس؟» (58: 6-7).

هذه الآية الذهبية تلخص لنا معنى الصوم الحقيقى الذى يجب أن نطبّقه عملياً فى حياتنا. مما لا شك فيه أن فترة الصوم لها معانٍ كثيرة لخير الإنسان، وتحسين علاقته مع الآخرين، خاصة مَنْ هُم فى أشد الاحتياج.

يُحكى عن أحد النسّاك أنه قضى حياته كلها لا يتناول طعاماً إلا مع غروب الشمس، وكان طعامه رغيفاً واحداً وقليلاً من الماء. والعجيب فى الأمر أن الناسك كان يوفّر لقمة من كل رغيف، ويضعها جانباً، حتى إذا تجمّع لديه مقدار رغيف منها، تناولها وتصدّق بالرغيف الكامل على فقير محتاج. ما أروع هذا المثال الحى الذى يعلّمنا الزهد والعطف على المحتاجين والفقراء فى آنٍ واحد.

لن يكلفنا الأمر شيئاً إذا حرمنا أنفسنا من بعض المشتهيات، لنطعم بها الكثير من الذين يموتون جوعاً. وما أكثر هؤلاء المحرومين من أشياء كثيرة، فَهُم بحاجة إلى سد جوعهم، وإلى مَنْ يساعد على شفاء أمراضهم ويستر عُريهم. لا يستطيع أى شخص منّا أن يعفى نفسه من فضيلة الإحسان والتصدّق وعمل الرحمة طوال العام، خاصة فى فترة الصوم، التى تُعتبر أجمل فرصة للحرمان من أجل الآخرين.

وكما نقرأ فى سفر أيوب: «لا تحوّل وَجْهَك عن فقير، وحينئذٍ وجه الرب لا يتحوّل عنك» (4: 7). ما أعظم قلب الإنسان حينما تمسّه الرحمة، وتعزف على أوتاره الحسّاسة، سيصبح ينبوعاً فيّاضاً بالحُب والرحمة والإنسانية، ولن تقف أمامه عراقيل أو صعوبات فى إيجاد شتى الطرق لإسعاف المحتاجين. بينما إذا تحجّر قلبه؛ لن يلتفت لأى فرصة يستطيع بها الوقوف بجانبهم والشعور باحتياجاتهم.

لا يكفينا الصوم الذى نقوم به، حتى نشعر بالقيام بواجبنا؛ إن لم نقم بمبادرة فعليّة فى سدّ حاجة المحتاجين. لذلك مَنْ يرد سماع صوت الله والشعور بوجوده الدائم فى حياته؛ يجب عليه أن يقوم بأعمال الرحمة، سواء بإطعام الفقير البائس، أو زيارة المستشفيات، وأن يتحنن على المحتاج الواقف على بابه.

كم من مبالغ طائلة ننفقها فى شراء أشياء لا فائدة منها، فى حين أن هناك جياعاً وعطشى لا حصر لهم، ولا يجدون ما يسدّون به جوعهم وعطشهم؟ إن الشخص الذى لا ينظر إلى الفقير حتى يطعمه؛ سيكون السبب الرئيسى فى جوعه وشقائه.

وعندما نتوانى فى مساعدة المريض، فنحن بذلك نشارك فى القضاء عليه. إذاً تُعتبر فترة الصوم فرصة كبيرة لعمل الخير والرحمة والتصدّق على الآخرين، كما أنها وسيلة تقرّبنا من الله، وتقوّى علاقتنا به والآخرين، لنتعاون معاً ونفكّر فى المحتاجين.

إذاً ليس الصوم مجرّد الامتناع عن الأكل والشرب طوال النهار، أو فريضة تؤدّى كواجب بلا أى نتيجة، إنما الصوم هو بركة للذين يعرفون غايته ويقدّسون أهدافه.

لذلك يجب علينا أن نعيش الصوم بكل حواسنا، فنستطيع أيضاً الصوم عن النظر إلى مُقتنيات غيرنا ولا نطمع فيها، ومِنْ ثمَّ ننظر إلى المحتاجين والفقراء والمرضى نظرة حنان، ونواسيهم ونسد عوزهم بقدر استطاعتنا.

وأن نصوم عن سماع صوت الوشاية وضرر الغير وفعل الشر، وأن نستمع إلى المعلمين الصالحين ونصائحهم التى تقودنا إلى العمل الصالح، ونسمع صراخ الفقراء والمحتاجين والأيتام.

كما نتحكم فى حاسة الشم التى بها نتلذذ برائحة المأكولات التى نستنشقها طوال النهار، حتى نشعر بالمحتاج الذى لا يستطيع تذوق هذه الأطعمة، لأنه غير قادر على شرائها أو الحصول عليها.

ونستطيع الصوم عن التفوه بالكلمات البذيئة التى كنّا نتلذذ فى قذفها على الآخرين، ونتذوق الكلمات الهادفة والنبيلة والرائعة لخير الجميع، ونشجّع بها الضعفاء والمظلومين.

ونستطيع فى هذه الفترة أن نتدرب على الصوم عن الغش والرشاوى وإيذاء الغير وكتابة ما يضر الآخرين، ونستخدم حاسة اللمس فى الخير والتضرّع لله العلى القدير، بصلاتنا ومصافحة الغير، ومد يد العون والمساعدة.

فعندما يعيش الإنسان فترة الصوم معتمداً على هذه التدريبات، ستتغيّر حياته للأفضل.

إذاً لا بد أن نتغيّر كلياً فى فترة الصوم، لأنها فرصة ذهبية، ليقترب فيها الإنسان من الله، ويفكر فى الآخرين بالصدقة وأعمال الخير.

ونختم بالقول المأثور: «مَنْ أراد أن يكون قلب الله مفتوحاً له، لا يغلق قلبه لمن يتوسل إليه».