ملمأة رمضان
لست أدري أصل كلمة «ملمأة»، لكنني كنت أسمعها كثيرا في وصف الدوارق المتراصة على منضدة داخل البيوت، يسبح فيها أصناف شتى من العصائر، فهذا عرقسوس.. وهذا كركديه.. وهذا بلح باللبن.. وهذا خشاف.. وهذا قمر الدين.. وهذه مشمشمية.. وهذا وهذا.. أصناف متنوعة من المشروبات كانت وما زالت تتزاحم على مائدة رمضان.
على مائدة المشروبات الرمضانية، ظهرت كلمة «ملمأة»، فإعداد المشروبات هواية لدى العديد من الصائمين، بل قل إنّها تهون عليهم الإحساس بالعطش، بصورة أو بأخرى، يتخيل الصائم وهو يصنعها اللحظة الآتية التي سوف يحتسيها فيها.
زمان كانت الأمهات يقلن حين يرين الآباء يطلبون هذا الصنف وذاك الصنف من الطعام وهذا المشروب أو ذاك: بني آدم -وهو صايم- بيفتكر إنه هياكل الدنيا. وهو وصف في محله إلى حد كبير، فالإنسان في لحظات الحرمان من الطعام أو الشراب -في نهار رمضان- يميل إلى شراء كل ما يقدر عليه، ويتوهم أنه لا محالة آكله لحظة أن يؤذن المغرب، وحين تحين اللحظة لا يأكل إلا قليلا.
مؤكد أنك تذكر «كليب الراجل ده هيجنني» لصباح وفؤاد المهندس، والذي يعارك فيه الزوج زوجته ويطلب منها إعداد المزيد والمزيد من أصناف الطعام، وعندما ينطلق مدفع الإفطار، ينكب على طبق الفول، ولقمة تلو لقمة يشعر بالشبع ويكتفي، ولا تجني الزوجة سوى التعب.
وقياسا على ذلك، يبالغ الصائم في إعداد المشروبات ظنا منه أنّه سيشربها بعد الإفطار، وحين تحين اللحظة يشرب كوبا من هذا ولا يكمله، ويرشف جزءا يسيرا من المشروب التالي، وهكذا يظل يدلق من كل دورق في كوب لا يكاد يشرب منه إلا قليلا، ومع عمليات السكب المتتالي تندلق كميات من هذا العصير أو ذاك على المنضدة المزينة بالدوارق، فيختلط العرقسوس مع المشمشية مع الخشاف مع الكركديه في مشهد مشروباتي فسيفسائي فريد من نوعه كانت تصفه الأمهات في الماضي بـ«الملمأة»، التي يبدو أنها كلمة تعبر عن خليط من المشروبات التي تتفاعل مع بعضها البعض نتيجة «الدلدقة» من الدوارق.
فالإنسان حين يلتقط قليلا من الطعام ثم قليلا من الشراب، ويحاول أن يأكل من هذا الطبق، ثم من ذاك، ويشرب من هذا المشروب، ثم من ذاك، فإنه «يملمئ»، تماما مثلما «يملمئ» البط أو الدجاج وهو يأكل، فيخلط الطعام على الشراب و«يدلدق» الأشياء على بعضها البعض.
طبعا الكثير من هذه العادات اختفت أو تكاد تختفي لأسباب عديدة، لكن يبقى أن بعض الأسر ما زالت تمارسها حتى الآن، أو لا تجد غضاضة في ممارستها إذا سمحت الظروف، وهي عادات ترهق سيدات البيوت كثيرا، لأنها تعبر عن فخ يومي يقع فيه الصائم، حين يحلم في نهار رمضان بالعديد من المأكولات والمشروبات، ليُحوّل -ما استطاع إلى إعداده سبيلا منها- إلى ملمأة بعد الإفطار، يختلط فيها الحابل بالنابل، وتصبح معها الحياة «كله على كله».