عربة الفول
كل شيء يمكن التخلي عنه في رمضان.. إلا الفول.. وذلك هو معنى العبارة الشهيرة التي كانت تتصدّر عربات الفول زمان، وتعود في ظهورها إلى أيام الشهر الكريم، عبارة «إن خلص الفول أنا مش مسئول». فكيف ستصوم النهار إذا لم تُسلح معدتك بالفول في وجبة السحور. قديما قيل: «الفول مسمار البطن»، وإذا لم «تمسمر» بطنك في السحور قضيت النهار مترنحا.
قد لا أبالغ إذا قلت إن في ذاكرة كل منا صورة لبائع الفول الذي كان يهل على الحي الذي عاش فيه عصر ليلة الرؤية، وهو ينادي على بضاعته، فيُهرول إليه الصغار وكل من يريد أن يحصل على حصته من الغذاء الشهير، الذي يُمثل جزءا من تاريخ الأجساد في مصر.
زمان كُنا نُهرول إلى بائع الفول، حين ينادي ونحن نُمسك بالأطباق وقرش صاغ، ونأخذ في التحلق حوله وندق على الأطباق بالصاغات حتى يلتفت البائع ويُلبي الطلبات، بمرور الوقت ظهر اختراع تعبئة الفول في الأكياس النايلون، ومن بعد ظهرت العلب. عربات الفول نفسها بدأت تقل في أعدادها بعد أن احتضنت المحلات هذه السلعة الغذائية، وتحولت بمرور الوقت إلى مطاعم تُقدّم الفول ومشتقاته وملحقاته.
عربة الفول كانت المعلم الأول والأبرز من معالم رمضان، حينما كانت هذه السلعة المصرية الصميمة تجارة الغلابة وطعامهم أيضا، لكنها بدأت في التراجع حينما شربت من ماء الانفتاح، مثلها في ذلك مثل كل الأكلات الشعبية التي تحولت إلى مادة جيّدة للربح عن طريق الدفع بها وترويجها لدى الطبقات الجديدة التي بدأت تنشأ في عصر الانفتاح.
في سياق ذلك تحولت عربة الفول إلى نواة لصناعة مليونير شهير، رزقه الله من فضله، وبفعل التحولات التي شهدتها فترة السبعينيات والثمانينيات تحولت عربته إلى محل كبير يُقدّم الوجبة الشهيرة ومشتقاتها ولوازمها في سحور رمضان وفي غير رمضان.
الشيء الغريب أنّ البعض بدأ يلعب حاليا اللعبة العكسية، واجتهد في إحياء أمجاد عربة الفول من جديد عن طريق زرعها في أحد الشوارع الكبيرة التي تتزاحم فيها بعض المؤسسات المهمّة، ويرتادها أفراد من الطبقة الوسطى ممن يجدون في الإفطار بالشارع طقسا ممتعا، ويهوون النفس الشعبي في إعداد الفول ولوازمه، ومع الرجوع العكسي لعربة الفول بدأت محلات الفول ترث وظيفة العربة لتبيع الفول في علب وفقط، وتتخلى عن أمجادها القديمة كمطاعم يهوى ارتيادها أبناء الطبقة الوسطى، والأعلى من الوسطى، لتناول وجبة عشاء شعبية أو وجبة سحور غير تقليدية.
عربة الفول وأسماء بائعي الفول وصورهم التي تختزنها ذاكرة الأجيال المختلفة من المصريين تحولت إلى أيقونة رمضانية أخذت في أحيان شكل الفانوس، وفي أحيان شكلا من أشكال الزينة التي تظهر فيها العربة، ومن فوقها القدرة وأمامها البائع، وتظهر مزيّنة بالأنوار الخلابة، ينظر إليها الصائم فيذكر ذلك البائع الذى كان ينادى على فول السحور، فيلبيه الصغار فرحين مبتهجين بالشهر الكريم.