الطوارئ اللذيذة

تعيش الأسر المصرية قبل شهر رمضان حالة لذيذة من الطوارئ.

فالاستعداد للشهر الكريم مطلوب.. وهناك 4 مجالات للاستعداد ينتفض من أجلها كل بيت، خلال الأيام القليلة التي تسبق الشهر الكريم، وقبل أن يدق مدفع الإفطار، تشمل:

الياميش.. الملمأة.. والزينة.. والمواعين.. يتزعم الشيوخ والعواجيز داخل كل أسرة إعلان حالة الطوارئ، ويفرح الشباب والصغار بالفرجة عليهم، وقد يقابل بعضهم هذا الاحتشاد «العواجيزي» بالاستغراب في أحيان، وقد يعزف البعض عن المشاركة في مظاهرات الاستعداد للشهر الكريم التي يقودها الكبار، كل ذلك حتى حين، فبعد أن يمر العمر يجد الصغير نفسه يفعل ما كان يشاهد الآباء والأجداد يفعلونه، وهو الذي كان ينعى عليهم بالأمس ما يفعلون، لقد كبر الصغير دون أن يدري.

لا يفهم بعض صغار السن المغزى العميق لحالة الطوارئ التي يعلنها شيوخ وعواجيز الأسرة قبل رمضان، إنها محاولة للتشبث بالحياة، واجتهاد في البحث عن دور، ورغبة في استرجاع طقوس الأيام الخوالي، أيام الطفولة التي تبتهج بالانطلاق، وأيام الشباب المزينة بتاج الصحة والعافية، وأيام الرجولة التي تكتسي بالنضج والثقة في الذات. لقد غادر الكبير ذلك كله، ولم يعد يسعده سوى بهجة الاستعادة، استعادة الأيام الجليلة التي كان يستغرب فيها وهو صغير من حالة الطوارئ التي سبق وأعلنها أبوه الشيخ أو أمه العجوز أو جده الفاني قبل أيام من حلول الشهر الكريم.

تتبدل الأدوار حين يكبر الصغير، فيجد نفسه مدفوعا إلى إعلان الطوارئ اللذيذة، وتزعم حركة الاستعداد للشهر الفضيل، فيبدأ فى بحث الأمور الأربعة: الياميش.. الملمأة.. والزينة.. والمواعين، ويعد لكل أمر منها عدته، ويبدأ فى عصر تفكيره فى استرجاع الطقوس التي كان يأتيها راحلوه، ويشرع فى استعادتها طقسا إثر طقس.

الإنسان ابن ظرفه، فالطفولة ظرف، والشباب ظرف، والرجولة ظرف، والشيخوخة ظرف، لا تستطيع أن تطلب من الطفل أن يؤدي كشاب، فيعزف عن الإحساس بالفرح للألوان المبهجة التي يضفيها رمضان على الحياة.. ولا تستطيع أن تجبر الشاب الذي يوجع رأسه التفكير في المستقبل أن يتركها لله ويبتهج باللحظة الحاضرة، وليس في مقدورك أن تطلب من الرجل الناضج أن يتخلى عن وقاره، ويعبر عن الفرحة التي تتفاعل داخله، وليس من المنطق أن تمنع الشيخ الكبير من استعادة الماضي الجميل في محاولة للتشبث بالحياة.

والإنسان أيضا ابن وقته.. فكل وقت وله أوان.. وكل عصر وله «ياميشه» و«فوله» و«حلوياته» و«ملمأته» و«مواعينه» وأيضا «زينته».. الحياة تتطور والكهرباء دخلت إلى الفوانيس بعد أن كانت تقاد بالشموع.. وشرائح الكمبيوتر التي تحمل الأغاني غزتها وسكنت جدرانها الأربعة المزينة بالألوان والأنوار، والكنافة التي تربت الأجيال على مذاقها باتت بلا ملامح بعد أن غزتها الفواكه وأشكال عجيبة من التحضيرات حولتها إلى قنبلة تنفجر فى بطون الشباب فتؤرق عليهم نهار صيامهم وتلكم ليل فطورهم.. أشياء كثيرة اختلفت بفعل الظرف.. ومع تحول العصر.. لكن حالة الطوارئ اللذيذة ظلت باقية.