صوت وصورة

هل العرب ما زالوا ظاهرة صوتية كما كان يردد المفكر السعودي «عبدالله القصيمي» في الماضي؟.. أظن أنّ ذلك لم يعد، فالعرب بدأوا في تناسي الصوت كجزء من نسيان اللغة التي دكت التكنولوجيا الحديثة، وخصوصا تكنولوجيا التواصل الاجتماعي، الكثير من حصونها.

لم تعد الأجيال الجديدة تطرب للغة أو يثير إحساسها أو تفكيرها معنى مغلف في ألفاظ قادرة على وخزهم، حروف العربية التقليدية توارت في لغة تواصل الأجيال الجديدة (جين زي.. وألفا) وحلت محلها الحروف اللاتينية فيما يعرف بالفرانكوأراب. الأجيال القديمة هي الأخرى لم تعد تطرب باللغة كما كان حالها بالأمس، بعد عدة عقود (بدأت منذ الثمانينات) أصيبت فيها اللغة بحالة تسمم بفعل الرداءة التي ضربت العديد من المجالات، فبعد زمان كانت العامية فيه تتألق بأجمل المعاني، وتحاول فيه الفصحى الابتعاد عن «الصوت» وتركز أكثر على المعنى في الإبداع الشعري والقصصي والغنائي وخلافه أتى علينا حينٌ من الدهر تسممت فيه العامية بـ«كوز المحبة» و«إحنا اللي دهنّا الهوا دوكو» وخلافه، أما الفصحى فقد أمست لغة متحفية لا جدوى لمعرفتها أو للإلمام بقواعدها إلا في امتحانات اللغة العربية وفقط.

ومع دخول تكنولوجيا التواصل الاجتماعي على خط الحياة حاول البعض تجديد أوصال اللغة وبث دماء جديدة في عروقها من خلال بعض المدونين الذين أجادوا في إبداع لغة جديدة تصل إلى المعاني من أكثر الطرق المتاحة، وتستخدم اللغة برشاقة وأناقة في محاولة لتوفير ما يمكن أن نطلق عليه «الكتابة الممتعة» التي تمزج بين الأسلوب القصصي والاختيار الدقيق للمفردات، لكن بمرور الوقت ومع ظهور الجيل الجديد من منصات التواصل الاجتماعي والتي تعتمد على الصور والفيديوهات، بدأت فكرة أنّ العرب ظاهرة صوتية تتراجع، في حين تقدمت الفكرة الجديدة التي تقول إن «العرب ظاهرة بصرية».

فالصور والفيديوهات باتت تلعب دور البطولة في عقل ووجدان العرب، ولا يدقق كثيرون في مدى الصدق أو الزيف فيها، وربما لا يرد على ذهن البعض أنّ الصور والفيديوهات قابلة للتزوير مثلها مثل المعلومات. عقل العرب ووجدانهم الآن أصبح معلقا بالصورة أكثر مما هو معلق بالكلمة، والصور المصنوعة اليوم باتت تلعب الدور الأهم في تشكيل تصورات الناس حول الواقع الذي يعيشون فيه، فالطريقة التي تُصنع بها الصورة تؤثر في تصورات الناس حول الأشخاص والأحداث التي تتفاعل في الواقع، وقد تتم الصناعة بشكل يؤدي إلى تزييف الواقع نفسه، ليحيا المجموع حياة في الصورة تختلف عن الحياة التي يعيشها في الواقع، تماما مثلما كان يحيا بالأمس حياة في اللغة والمانشتات الحنجورية والشعارات المدوية تختلف كل الاختلاف عن الحياة أو الأوضاع في الواقع.

تضليل الفرد عن الواقع سواء بالصوت أو بالصورة يرتبط دائما بهؤلاء الذين يديرون ورش التزييف التي تنشر منتجاتها في كل الاتجاهات بصورة تؤدي بالفرد إلى التحليق الوهمي بعيدا عن الواقع ليظل هكذا لبعض الوقت، ثم يفيق بعدها على الحقيقة المؤلمة أو يستيقظ على رأسه وهو يرتطم بالحائط.