الهجرة إلى الذات
لك أن تتخيل مذاق الأسلوب الصحفى الذى كان يكتب به شاعر بموهبة مأمون الشناوى.
كان يعزف بالكلمات أعذب الأنغام التى تنفذ بسلاسة إلى العقل لتسكن فى القلب، ويرسم بالجمل أجمل اللوحات التى تصف المشاعر الإنسانية فى أدق تفاصيلها، وتطرح الرأى الذى ينفذ إلى العقل.
تنقل -فى رحلة العمل الصحفى- عبر عدد من المحطات، بدأت بمجلة روزاليوسف، ثم مجلة آخر ساعة، ثم جريدة أخبار اليوم، واستقر فى جريدة الجمهورية فى آخر محطة له، وكان الباب الذى يحرّره بعنوان «جراح قلب» من أكثر الأبواب ذات الشعبية، ويُعد «مأمون» أول من أبدع ما يمكن أن نُطلق عليه صحافة «الاستشارات»، سواء من خلال هذا الباب أو عبر بعض الأبواب الأخرى التى تولى تحريرها، مثل: باب «سبع أيام بلياليهم»، وباب «بريد القلوب».
عاش مأمون الشناوى عاشقاً للحرية والانطلاق، يشعر مثل كل المبدعين بإحساس عميق بالمتعة وهو يشاهد الخيول تركض منطلقة فى الفضاء العريض. هل تذكر ما قاله أمل دنقل فى قصيدة الخيول: «كانت الخيل برية.. تتنفس حرية.. مثلما يتنفسها الناس.. فى ذلك الزمن الذهبى النبيل».
هذا الكاتب والمبدع الكبير كان يسير نحو الخمسين من عمره، حين صدر قانون تنظيم الصحافة عام 1961. يقول خيرى شلبى: سئم مأمون الشناوى العمل الصحفى بعد تأميم الصحافة (يقصد بصدور قانون تنظيم الصحافة)، إذ إنها بعد تأميمها أصبحت فى نظره صحافة «عقيمة» لا خصوبة فيها ولا أمل يُرجى منها.
وحين عبر مأمون الشناوى الخمسين وأخذ يسير سريعاً نحو الستين، تعرّض للفصل من عمله الصحفى، لم تكن تلك المرة الأولى التى يواجه فيها مثل هذا الموقف، لكن الثانية كانت أشد وجعاً من الأولى.
يحكى «خيرى شلبى» أنها وقعت فى أواسط الستينات وكانت غادرة لم يعرف لها سبباً، إذ هو غير مشتغل بالسياسة، فضلاً عن أنه معتدل فى آرائه، متزن فى أسلوبه.
يصعب على شخصية بتركيبة «مأمون الشناوى» أن تواجه هذه الأوجاع، وهى تسير نحو الستين، إنها السن التى تضعف فيها قدرة الإنسان على المقاومة، ويُصبح إحساسه بالإحباط أعمق، وتوجعه بالغبن أشد، ومعاناته من الإهدار أصعب، خصوصاً إذا كان مرهف الحس مثل «مأمون».
لقد اندفع الرجل بعد أن وصل أو كاد يصل إلى عتبة الستين إلى ترك العمل الصحفى، رغم أنه كان يملك القدرة على العطاء، وبمرور السنوات بدأت كتاباته الغنائية البديعة تقل.كان السبب فى هذا التراجع واضحاً، فالجيل الذى تألق معه إبداع مأمون الشناوى بدأ يغادر الحياة، غادرها فريد الأطرش سنة 1974، أم كلثوم سنة 1975، ثم عبدالحليم حافظ 1977، وهكذا.
والمناخ العام الذى تألق فيه إبداعه حل محله مناخ جديد لا يمنح الإبداع والتميز قيمته، مناخ لم يعد يقيم للجودة اعتباراً، الزمان اختلف، ولم يعد من الحكمة مسايرته، ربما يكون مبدع بتركيبة مأمون الشناوى قد فضّل وقتها العزلة والانسحاب والهجرة إلى ذاته الثرية، بعيداً عن الواقع المفلس.