جيل عجنه الإبداع

مأمون الشناوي واحد من ملوك «الصحافة الساخرة» فى تاريخنا المعاصر، وهو ينتمى إلى جيل كان ثرياً بالقدرات، وامتلاك المواهب الحقيقية، وأزعم أن أياً من الأجيال التي عملت فى مجال الصحافة لا تستطيع أن تنافس جيل «مأمون» فيما تمتع به من ثراء قدرات ولمعان موهبة.

أغلب الصحفيين فى الجيل الذى أحدثك عنه امتلك موهبة إبداعية أخرى إلى جوار موهبته الصحفية الكبيرة، على سبيل المثال: فتحى غانم كان روائياً بارعاً وصحفياً لامعاً، وصلاح حافظ كان مثله روائياً وصحفياً، ومصطفى أمين كان صحفياً نابغاً وكاتباً سينمائياً، وجليل البندارى كان صحفياً وناقداً وكاتباً سينمائياً، وكامل الشناوي كان شاعراً وصحفياً، تماماً مثل شقيقه مأمون الذى كان شاعراً وصحفياً، وهكذا.

تلقى هذا الجيل تعليمه قبل ثورة يوليو 1952، وبدأ فى التألق إبداعياً خلال الأربعينات من القرن الماضى، وأخذ فرصته كاملة خلال فترة الخمسينات والستينات والسبعينات.

مأمون الشناوي على سبيل المثال من مواليد عام 1914، وعندما قامت ثورة يوليو كان على مشارف الأربعين من عمره، صحفياً وشاعراً غنائياً تشع موهبته وتنشر نورها فى كافة الاتجاهات، وظني أن هذا الرجل الجميل عانى مشكلة أساسية تتمثل فى اعتداده بموهبته وقدراته، ذلك الاعتداد الذى كان يجعله يثور كل الثورة حين تضطره الظروف إلى أن يقبل الدنية فى مهنته، فيصبح عمله الصحفي وسيلة للتجهيل بدلاً من أن يكون طاقة نور وتنوير، أو تتحول كتاباته إلى دعاية إنشائية، بدلاً من أن تكون دعوة للتفكير وإعمال العقل فيما يطرحه من قضايا.

تعال، على سبيل المثال، إلى سجل أغاني مأمون الشناوي، تلك السطور التي لم تزل تسعى بيننا حتى الآن، ستجد أنه كان يبحث فيما يكتبه دائماً عن المعنى الراقي العميق الذى يحلق بالمستمع له إلى آفاق رحبة من المشاعر السامية والأحاسيس المرهفة.

يقول «خيرى شلبي» فى كتابه «أعيان مصر»: «حينما بدأ مأمون يكتب الأغنية، كانت الأغنية المصرية آنذاك فى حضيض من الكلمات الرخيصة المبتذلة التى تجد مع ذلك شيوعاً بين فئات عريضة من المستمعين، أسهم فى شيوعها شيوع التكنولوجيا الغنائية الجديدة، نقل مأمون الشناوى الأغنية من مجال الكلمات الرخيصة البذيئة إلى مستوى الشعر الخالص».

مأمون الشناوي بتركيبته كإنسان كان حريصاً على التجويد، وظني أنه كان من هذا النوع من البشر الذين لا يُخرجون سطور إبداعهم إلى النور إلا بعد أن يستنفدوا مخزون أحاسيسهم ومشاعرهم وكل طاقة تفكيرهم فى نسجها وتجويدها.

هذا النوع من الشخصيات لا يحب المناخ الخامل الهابط أو بيئة العمل الراكدة، ولا يستطيع أن يتناغم مع أجواء الضغط والمحاصرة، وكذلك كان كامل الشناوي فى أغانيه، يستنفد كل طاقته الوجدانية والذهنية فى إبداعها ثم يدفع بها إلى من يريد الترنم بما تحمله من معان، ولا يسمح لأحد بأن يعدل عليه، حتى ولو كان بحجم سيدة الغناء العربى أم كلثوم التى عدلت لغيره.

يقول المرحوم «خيرى شلبى» إن «مأمون» قدم لأم كلثوم أغنيتى: الربيع وأول همسة، وكان قد كتبهما لها، وحين طلبت تعديل بعض الكلمات فيهما سحبهما الشاعر المعتد بنفسه وقدمهما لفريد الأطرش ليصنعا مجده، لكن القطيعة مع أم كلثوم لم تدم، فقد كان صعباً عليها أن تتجاهل شاعراً كبيراً مثله، كما يحكى «خيرى شلبى».. رحمهم الله جميعاً.