صناعة إنسانية بحتة
الظلم سبب جديد من أسباب اللعنة، بما تعنيه من بعد عن رحمة الله تعالى.. وصدق النبي العظيم حين قال: «الظلم ظلمات يوم القيامة»، وقد أفاض القرآن الكريم فى الحديث عن الظالمين ومن يكابدون الظلم والمجتمعات التي تسيطر عليها لعنة الظلم.
أصل الظلم هو ظلم الإنسان لنفسه، فأنت تظلم نفسك حين تظلم غيرك، ورضاء المظلوم بما يقع عليه من ظلم يمثل وجهاً آخر من أوجه ظلم النفس، لذلك تجد القرآن الكريم تحدث فى عدة مواضع منه عن ظلم الإنسان لنفسه.
قال تعالى: «وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» وقال: «وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ».. وقال: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ».
فالظلم صناعة إنسانية بحتة، والله تعالى برىء من الظلم والظالمين: «وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»، عدل الله مطلق، والله تعالى لا يظلم أحداً، ولعلك تذكر حديث النبي، صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا».
هذا التنبيه الإلهي للبشر يحمل تحذيراً صريحاً من الانسياق فى الظلم بما يترتب عليه من لعنات.
فالظلم أكبر لعنة تصيب البشر، لأنها تسمم حياتهم، فإحساس المظلوم مرير، وإحساس الظالم غرور، والمرار والغرور أكثر داءين يضربان الحياة بالسمية، فالمرار يفقد الإنسان إحساسه بالحياة، والغرور يفقد صاحبه الإحساس بإنسانيته، فيتحول إلى كائن أدنى ويتجه إلى إذلال غيره وإهدار كرامته، ولا يدرى وهو يفعل ذلك أنه يهين نفسه ويضع كرامته الشخصية فى الحضيض، فلا كرامة لإنسان فى إهانة غيره، ولا عز فى إذلال الآخرين.
مشكلة الإنسان الكبرى فى الحياة هى الظلم، وإذا كانت الآخرة تمثل الوجه النقيض للدنيا، فقد ميزها الله تعالى بالبراءة من الظلم، وذلك فى قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ».
فدار المقامة لا ظلم فيها، الظلم فى الدنيا التي تعتمد على مبدأ تقلب الأحوال، الدنيا التي يمكن أن يتحول فيها الظالم فى لحظة إلى مظلوم، والمظلوم إلى ظالم.
تجد هذا المعنى حاضراً فى ذلك الإحساس الذى داهم بنى إسرائيل حين أصابتهم لعنة الظلم من جانب فرعون، لقد توجهوا إلى موسى يشتكون له تسمم حياتهم وإيذاء فرعون لهم، فما كان منه إلا أن حذرهم من تبدل الأحوال لينتقلوا من مقاعد المظلومين إلى مقاعد الظالمين.
قال تعالى: «قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ»، الظلم مصدره إحساس زائف بالقوة يعيشه الفرد الذى تمكن منه الشيطان، فحين يتمكن الإيمان من قلب إنسان يدرك أن القوة لله جميعا.
وبالتالي يتعلم كيف يتواضع لغيره من البشر ولا يؤذيهم، وسوف يدرك كل ظالم وهو موقوف أمام الله أن القوة لله جميعاً.. قال تعالى: «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ»، لعنة الظلم من أشد أنواع اللعنات التى يمكن أن تضرب الحياة، إذ تعبر عن موت الضمير واختلال التفكير لدى الظالم، وضعف الإرادة وانكسار الروح وانهزام النفس لدى المظلوم، وخراب الحياة لدى المجموع.