فلسطين.. شعب لا يموت
مازال الشعب الفلسطيني يسطر ملاحمه في الصمود ورفض الفناء . مع شعوب عديدة ناضلت من أجل البقاء والتحرر ورفض التبعية والاحتلال ، يشغل الشعب الفلسطيني مكانة سامقة.
قرن كامل على الأقل مضى على كفاح هذا الشعب المنكوب باستعمار هو الأسوأ، حيث يسانده قوى كبرى ضليعة في قهر الشعوب ومص دمائها.
ورغم ما حدث وما زال يحدث مع الأشقاء الفلسطينيين إلا أنهم يبعثون مرة وراء المرة.
والآن بعد الدمار الكامل لغزة واستشهاد عشرات الآلاف من أبناء فلسطين ، وسط الدمار والركام، وبين جراح الحرب وآلام الفقد، ينهض شعب غزة من جديد، كما لو أنه طائر العنقاء الذي يولد من الرماد.
ما إن وضعت الحرب أوزارها وهدأت أصوات القصف، حتى عاد أهل غزة إلى مدنهم وقراهم، إلى أحيائهم وشوارعهم، إلى بيوتهم التي تهدمت، وأحلامهم التي حاولت الحرب أن تطفئها.
في مشهد يعكس إرادة لا تنكسر، استأنف السكان حياتهم كأنهم لم يكونوا قبل أيام قليلة في قلب كارثة إنسانية، وكأن الموت الذي حاصرهم لم يكن إلا عاصفة عابرة في تاريخ نضالهم الطويل.
رغم فداحة الخسائر، فإن الحياة في غزة لا تعرف التوقف، فتحت المحال التجارية أبوابها، وبدأ الباعة ينادون على بضائعهم في الأسواق، وعاد الصيادون إلى البحر يرمون شباكهم من جديد.
الأطفال الذين اختبروا الخوف والرعب خرجوا للعب في الشوارع، وكأنهم يعلنون للعالم أن غزة لا تُهزم. هذه العودة السريعة للحياة ليست مجرد محاولة لنسيان الحرب، بل رسالة تحدٍّ واضحة: الاحتلال يستطيع أن يدمر المباني، لكنه عاجز عن قتل الروح.
حين وقّعت الأطراف المتحاربة اتفاق الهدنة، كان البعض يظن أن النازحين لن يعودوا، وأن الهجرة ستكون خيارًا منطقيًا لمن فقدوا كل شيء.
لكن الفلسطينيين كعادتهم خالفوا التوقعات. عاد النازحون رغم أن بيوتهم لم تعد موجودة، رغم أنهم فقدوا أحباءهم، ورغم أن الأمن لا يزال هشًا. لم تكن العودة مجرد حركة جسدية ، بل كانت إعلانًا واضحًا عن رفض الهجرة والاقتلاع. الفلسطينيون يتمسكون بأن الوطن ليس مجرد مكان، بل هوية وانتماء، وهو المعنى الحقيقي للبقاء.
الصمود في وجه الاحتلال لا يكون دائمًا بالسلاح وحده، بل بالمقاومة اليومية للحرب التي تهدف إلى قتل روح الفلسطيني قبل جسده.
حين يقرر الفلسطيني أن يعيد بناء منزله ولو بجدران بسيطة، فهو يقاوم. حين تعود النساء إلى الخَبز في الأفران التقليدية بعد أن فقدن مطابخهن، فهنّ يقاومن. حين يُفتح مقهى صغير وسط الركام ويجتمع فيه الأصدقاء لتبادل الضحكات رغم الأحزان، فهذه مقاومة من نوع آخر، مقاومة تُبقي غزة حيّة رغم كل شيء.
أحد أبرز المشاهد التي تعكس صمود الشعب الفلسطيني عودة الأنشطة الاقتصادية رغم قلة الموارد.
الباعة الجائلون يعرضون بضائعهم المتواضعة، وصغار التجار يعيدون ترتيب متاجرهم المدمرة جزئيًا، والمزارعون يعودون إلى أراضيهم رغم المخاطر. في غزة، حتى في أشد الأزمات، الاقتصاد الشعبي لا يموت، فهو ليس مجرد نشاط اقتصادي بل هو شريان حياة يُبقي الناس على قيد الأمل.
الأسرة في غزة ليست مجرد وحدة اجتماعية، بل حصن المقاومة الأول. رغم النزوح والتشريد، بقيت العائلات متماسكة، تعيد لمّ شملها تحت أي سقف متاح. الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن واصلن الاعتناء بالأحياء، والآباء الذين فقدوا منازلهم بنوا خيامًا بديلة، وأصرّوا على أن يستيقظ أطفالهم كل صباح على درس جديد في معنى الثبات.
لم تمنع الحرب أطفال غزة من العودة إلى المدارس حتى لو كانت أنقاضا . تُقام الحصص الدراسية في خيام مؤقتة، أو في العراء. التعليم هنا ليس رفاهية، بل وسيلة للبقاء، وطريق لمستقبل مختلف يتحدى محاولات الاحتلال لتجهيل الأجيال القادمة.
أرسلت مصر والأشقاء العرب المساعدات الآلية لإعادة تأهيل غزة . من خلال المعابر تدخل المنازل الجاهزة – الكرافانات – وتدخل اللودرات لتعمل 24 ساعة يوميا لإعادة إعمار غزة وإعادة الحياة الكاملة لشعب بطل يرفض الموت.
ما يميز غزة إحساسها الجماعي بالمسئولية. الجميع يساعد الجميع، لا أحد يُترك وحيدًا. بعد كل حرب، تبرز مبادرات أهلية لترميم البيوت، وتوزيع المساعدات، وإعادة تأهيل المصابين نفسيًا وجسديًا. هذا الترابط الاجتماعي هو الذي يجعل الغزيّين قادرين على تجاوز أقسى الظروف.
ربما يعتقد الاحتلال أن الحروب المتكررة ستدفع أهل غزة إلى اليأس، لكن الواقع يقول عكس ذلك. كل حرب، رغم مآسيها، تجعل الفلسطيني أكثر تمسكًا بأرضه، وأكثر إيمانًا بقضيته. كل قصف لا يهدم إلا الجدران، أما العزيمة، فتبقى أصلب من أي سلاح.
رسالة غزة للعالم واضحة: لا يمكن قتل شعب قرر أن يعيش. لا يمكن اقتلاع وطن يسكن في قلوب أبنائه. في كل مرة تعتقد إسرائيل أنها أنهت الحكاية، يعود أهل غزة ليكتبوا فصلاً جديدًا من الصمود، فصلاً عنوانه الأمل والبقاء والمقاومة بالحياة.