المعدن والمحنة والإدراك

أمينة خيرى

أمينة خيرى

كاتب صحفي

تظهر معادن الناس الحقيقية فى أوقات الشدة أو الخطر أو التهديد، ومعدن المصريين أصيل ثابت. 

أحياناً تتواتر المشكلات علينا، ونمر بأحداث جسام، ونشهد حوادث مريعة، وتتسلل بيننا جماعات وشياطين، فنظن أن المعدن ضُرِب فى جوهره، أو أصابه صدأ لا يُمحى، لكن يشاء القدر أن يحدث حدث جلل، فيعى الجميع أن خطراً ما يلوح فى الأفق، وفجأة ودون سابق ترتيب أو إنذار، تجد الغالبية المطلقة من أصحاب المعدن الأصيل مصطفة متوحّدة على موقف وطنى واحد. 

إنه فقه الأولويات، ولا أولوية تفوق أولوية الوطن.

ولولا فداحة ما تتعرّض له المنطقة العربية، ومصر فى القلب منها، لقلت إن ما يجرى حالياً على الساحة من «لامعقوليزم» السياسة، وهزل الجيوسياسة، وغياب الدبلوماسية الدولية غياباً مريباً مريعاً، هو رب صدفة لإعادة اكتشاف أنفسنا، والتأكد من أصالة المعدن، وعودة ثقتنا فى أنفسنا وقدرتنا على حسن الاختيار.

صديقة عزيزة تنتهج نهج المعارضة الشديدة، فوجئت بها وقد كتبت على كل حساباتها على «السوشيال ميديا»: «معك ياريس. كلنا وراءك على قلب رجل واحد وامرأة واحدة. سنتحمل، وسنتغلب على الصعاب مهما بلغت من شدة، وسنخرج منتصرين بإذن الله».

تتطاير من حولنا مقاطع بعينها من أغنيات وطنية. على مدار عقود، خاصمت الأغنية الوطنية التى تمجّد أشخاصاً. ولسبب ما، أو لعله سبب يشعر به أصحاب المعدن الأصيل، تتطاير كلمات أغنية «يا أغلى اسم فى الوجود» هذه الأيام من كل ركن، ويختار الأصدقاء والمعارف تلك المقاطع التى تشير إلى «المحن» (جمع محنة).

حقاً يا مصر، تفوت عليكى المحن، ويمر بيكى الزمن، ومهما كان انتى مصر، وكل خطوة بنصر، وانتى الحضارة الأصيلة، قبل التاريخ والزمان. 

والله ليس كلاماً، لكنه شعور متمكن من الملايين، باستثناء «الجماعة» وأبناء عمومهم وقلة قليلة متنوعة المكونات.

وبمناسبة المكونات، فإن من يهتم حقاً بما يجرى فى العالم، وما يُدار ويدبّر هنا وهناك، وما يُقال ويُثار فى دول الشرق والغرب، عليه باستثمار جزء ولو قليل من الوقت والجهد لقراءة أو مشاهدة ما يقدّمه الإعلام فى دول العالم. 

من إسرائيل وأمريكا، إلى ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وكذلك روسيا وأوكرانيا، والكوريتين، ودول أمريكا اللاتينية، وأستراليا ونيوزيلندا وغيرها.

وبهذه المناسبة، فإن دولاً كبرى «تمشى حرفياً جنب الحيط» هذه الأيام، ويقول خبراؤها إن هذا هو التكتيك المضبوط، وذلك فى محاولة للبقاء بعيداً عن المجال البصرى للإدارة الأمريكية الحالية لأطول وقت ممكن.

الاطلاع ومتابعة ما يجرى فى دول العالم التى تؤثر فينا وتتأثر بنا -شئنا أو أبينا- أمر بالغ الأهمية. 

البقاء فى داخل بالوناتنا المحدودة التى تقتصر على ما نقوله لبعضنا البعض، وما نتراشق به من اتهامات، وما يتفتّق به ذهن البعض من نظريات سياسية وجيوسياسة واقتصادية واجتماعية ودينية وتموينية وصحية وغيرها يُعاد تدويرها على أثير الـ«سوشيال ميديا» حتى تتحول إلى مخزون معرفى بعضه، فيه سم قاتل.

الاطلاع على ما يُثار حولنا لا يعنى اعتناقه وانتهاجه، ولا إنكاره والتنديد به. 

الاطلاع يكون بغرض الاطلاع والمعرفة. وأفضل أنواع الاطلاع ذلك الذى يتم من مصادره، لا بعد تدويره من قِبل مؤثر «تيك توك» أو استراتيجى على «إنستجرام».

الاطلاع يُثرى الفكر، ويوسّع المدارك، ويخرجنا من البالون الصغير إلى العالم الكبير. 

الاطلاع يجعلنا نفهم أحياناً لماذا تتصرّف دول بطريقة ما، وأسباب الخطوات التى اتخذتها أنظمة فى شأن قضية ما. 

الفهم والإدراك ليسا محرمين أو مكروهين.

من يخاف من الفهم، ويخشى الإدراك، أو يفرض ضيق الأفق على من حوله، أو يحرمهم من البحث والتنقيب بأنفسهم بحجة أنه معلم أو رجل دين أو شخص مستنير أو أنه يوفر عليهم عملية البحث المضنية، هو أفاق وأفاك ولا يؤتمن.

ومن باب الأمانة، وبعيداً عما يجرى فى المنطقة، ولكن على مرمى حجر من مسألة القراءة والاطلاع والبحث وتوسيع المدارك، وفى ظل الثورة الرقمية، التى لم تعد ثورة، بل هى «واقع معاش»، وفى ضوء الذكاء الاصطناعى وسرعة قطعه للأشواط فى سوق العمل، والعلاج والتشخيص، والأمن السيبرانى، والتعليم، والتدريب، والروبوتات، والقيادة الذاتية وغيرها، أحلم بتحرير الفكر والبحث، وتشجيع الإبداع والابتكار فعلاً لا قولاً.

العالم يتحدّث الآن فى ما يختص بالذكاء الاصطناعى عن عدالة الإتاحة، وأخلاقيات تطبيقاته واستخدامها، وتقليد الذكاء البشرى واستنساخه من أجل الإدراك وحل المشكلات والتفاعل اللغوى وتيسير الابتكار وغيرها.

فى الوقت نفسه، يطرح الذكاء الاصطناعى تحديات كبرى وخطيرة، منها مزج الواقع بالخيال، والحقيقة بالكذب، والصدق بالافتراء وغيرها، وهذا يحتاج إلى مستخدم واعٍ مدرك ناقد، لا غافل متوانٍ ناقل عن الغير. 

فهل نحن جاهزون؟