مصر تكتب التاريخ بالحكمة
في زوايا المنطقة المُثقلةِ بالجراح، تقف مصر شامخةً واثقةً في قدرتها على حفظ التوازن الإقليمي، وتتجسد إرادة شعبها في الأزمنة الصعبة رفضًا للمخططات الاستعمارية. وعلى أسوارها تتهاوى أطماع الغزاة ممن يظنون أن فرط قوتهم يمكنهم من قهر الأحرار، مصر هي الشقيقة الكبرى(قولًا وفعلًا) للعرب أجمعين.
هكذا أنبأنا التاريخ، وبضمانها الآن يواصل الفلسطينيون صمودهم، وهم يرونها حافظةً لعهدها معهم، متمسكةً بعدم تصفية قضيتهم، وقادرةً على الإبقاء عليها حاضرةً في ضمير العالم كله. مصر لا تتحرك في الفراغ أو من الفراغ، لكنها تعرف تمام المعرفة أن مخزون حضارتها لا يؤهلها إلا لأن تكون حجر الزاوية في الاستراتيجيات السياسية والإقليمية للشرق الأوسط.
ولا يمكن لأحد أن يتجاوزها أو يتغافل عن تأثيرها الذي يمتد خارج حدودها الجغرافية، لمسافاتٍ تُكتشف فقط في اللحظات الفارقة وأوقات الحسم.
ومنذ أن تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم في مصر عام 2014، أصبح واحدًا من أبرز القادة في المنطقة، وبدأ خطواته الجادة في إعادة هيكلة الدولة وتعزيز دورها الإقليمي والدولي.
وفي إطار الحفاظ على المصالح الوطنية، ارتكزت السياسة الخارجية المصرية خلال السنوات العشر الماضية على تحقيق التوازن والتنوع في علاقاتها مع مختلف دول العالم شرقًا وغربًا، وفتح آفاقٍ جديدةٍ للتعاون انطلاقًا من مبادئ السياسة المصرية القائمة على تعزيز السلام والاستقرار في المحيط العربي والإقليمي والدولي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ودعم مبدأ الاحترام المتبادل، وتعزيز التضامن، والتمسك بمبادئ القانون الدولي، ودعم دور المنظمات الدولية والأممية.
مصر التي تواجه الآن بقوةٍ مخططَ تصفية القضية الفلسطينية تؤكد أن إرادتها السياسية ليست رهينةً لأحد، ونلمح في كل سياسات الرئيس السيسي قدرته على اتخاذ القرار بعيدًا عن الضغوط أو الإغراءات (الداخلية والخارجية) في إطار رؤيةٍ استراتيجيةٍ بعيدة كل البعد عن التكتيك السياسي المؤقت.
والمؤكد أن مصر (بعد ثورة 30 يونيو 2013) انتقلت بعلاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى مربعٍ مغايرٍ تمامًا عن ذلك الذي تقوقعت فيه من قبل لمدة 40 عامًا تقريبًا، ولم نعد رهن إشارة "الصديق" الأمريكي في تحقيق مصالحه منفردًا على حساب المصالح المصرية والعربية.
وإذا كان واقع الحال يشير إلى وجود تأييدٍ شعبيٍّ جارفٍ لموقف الرئيس السيسي، وحتى لا ننجرف وراء المشاعر بين الارتياح للموقف والقلق من آثاره السياسية والاقتصادية، علينا أن نتأمل قليلًا العوامل الموضوعية التي تدفع الإدارة الأمريكية بغض النظر عن شخصية الجالس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض للحرص على علاقتها "الاستراتيجية" بمصر.
من بينها(على سبيل المثال) ما قاله الجنرال مارتين ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، ردًّا على سؤال النائبة الجمهورية كاي جرانجر في جلسة استماعٍ للجنة الدفاع الفرعية المنبثقة عن لجنة المخصصات بمجلس النواب الأمريكي في 17 أبريل 2013.
سألت النائبة عما إذا كانت المؤسسة العسكرية في مصر تُعد لاعبًا مستقلاً يمكن الاعتماد عليه في ضوء أجواء الاضطرابات التي تمر بها مصر، فأجاب ديمبسي مؤكدًا أن مصر إحدى ركائز الاستقرار في المنطقة، وأن استثمار الولايات المتحدة في علاقتها بالمؤسسة العسكرية المصرية هو استثمارٌ جيدٌ للغاية.
وكذلك أكد جون كيري، وزير الخارجية الأسبق، خلال الجلسة نفسها أن واحدًا من أهم استثمارات الولايات المتحدة الأمريكية مع مصر هو علاقتها بالمؤسسة العسكرية، ولافتًا إلى تمتع تلك المؤسسة بالدراية الكاملة بطبيعة العلاقة مع واشنطن.
كما أشار إلى أن القوات المسلحة المصرية هي الضامن الرئيسي لتحقيق المرور الآمن للقطع البحرية الأمريكية في قناة السويس، وأن أي إضرار بها سيشكل مخاطر مباشرةً ضد المصالح الأمريكية قبل المصالح المصرية.
هذا ما تتّفق عليه وزارتا الدفاع والخارجية في واشنطن: ضرورة الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية المصرية الأمريكية.
مصر في المنطقة ليست كغيرها ووزنها لا يُقاس بعيدًا عن حكم التاريخ ومقتضيات الجغرافيا. ورئيسها قادرٌ تمامًا على تأكيد دورها في عالمٍ مليءٍ بالتحديات.
وبناءً عليه، أثق في قدرتنا كمصريين على فرض إرادتنا بالحكمة، وليس بعلو الصوت. الشعب المصري يردد المثل: "خذوهم بالصوت قبل ما يغلبوكم"، ويعرف أن علو الصوت لا يدل على قوة الشخصية، ولا يحقق لصاحبه مبتغاه.