أغاني رمضان الحزينة!

رحاب لؤي

رحاب لؤي

كاتب صحفي

فى ليلة أول يوم مدرسة من الصف الدراسى الثانى، اصطحبت الصغار إلى المتجر القريب كى نشترى أغراض المدرسة، وهناك حيث كل شىء متاح، من الأدوات المنزلية والمدرسية، وحتى المخبوزات والخضراوات، كان الياميش وزينة رمضان تحتل مكانة بارزة، وكذلك زينة رمضان، ما أضفى أجواء احتفالية، لم يكسرها سوى تلك الأغانى التى ظلت تدور بلا توقف فى الخلفية.

أغانٍ مأخوذة عن إعلانات رمضان للسنوات السابقة، يفترض أنها لإضفاء مزيد من أجواء البهجة والسعادة فى الأرجاء، لكن يبدو أن النتيجة جاءت بطريقة عكسية، فوسط كميات الزبيب والقراصيا والتمور بأنواعها وجدتنى أشعر بكآبة شديدة، ركزت أكثر فوجدت تلك الأغنية التى تهدر فى الخلفية هى المسئولة عن كل شىء، كانت أغنية قد تم إنتاجها عام 2015 لحساب إحدى شركات الاتصالات، تتحدث عن قوة العائلة، وتصور مكالمات بين مجموعة من الشخصيات المحبوبة لدى المصريين.

لكن الفكرة أن أكثر من قاموا بالغناء فى الإعلان الشهير قد توفوا، فارق الأخ شقيقه، وتوفيت الأم الجميلة، ومات الأب ذو الصوت العذب الذى يظهر فى النهاية وصار الإعلان الذى شهد على وحدة العائلة، و«قوة اللمة» تذكيراً متجدداً بقسوة الحياة وألم الفراق، كنت على ثقة أننى لست وحدى التى تشعر بتلك الغصة فى حلقها بسبب ما تفتق إليه ذهن القائمين على المتجر الكبير بتحميل كافة أغانى شركة الاتصالات الشهيرة، والتى يعود بعضها إلى أكثر من 15 عاماً مضت، وإذاعتها عنوة على الزوار لتزداد المأساة.

عند مرحلة بعينها، انتقلت أغانى رمضان من الإذاعة عبر أجهزة الراديو والتليفزيون «بقدر» فى المواعيد المقررة لها، إلى السماعات الكبرى على مقدمات المحال التجارية فى الشوارع المكتظة، وفى أسقف المتاجر الكبرى، مع خاصية «الريبلاى» حيث تنتهى القائمة لتبدأ من جديد، وفيما أتى المستغلون على الأغانى القديمة كـ«وحوى يا وحوى» و«رمضان جانا» بعدما أشبعها العالم استهلاكاً، بداية من الصين التى اعتصرتها داخل فوانيسها البلاستيكية، إلى بائعى العتبة والموسكى.

لكن المسألة لم تقف عند هذا الحد، تم استهلاك الأغانى التراثية إلى درجة الملل على أعتاب المحال بطول مصر وعرضها، تعاد مرات ومرات على مدار اليوم حتى بدأ الجميع يبحثون عن أى وكل أغنية تتعلق برمضان، بصرف النظر عن المعنى الذى تحمله، أو الذى صارت تحمله مع انقضاء السنوات!

المفاجأة الحقيقة التى لا يدركها الباعة وأصحاب المتاجر، صغيرة كانت أو كبيرة، أن اللجوء إلى تلك الطريقة «الجاهزة» فى استدرار النوستالجيا، و«إدخال» الزبائن إلى وضعية «رمضان جانا» أملاً فى مزيد من عمليات الشراء، يأتى فى بعض الأحيان بطريقة عكسية، فبحسب تقارير ودراسات علمية أجريت على تلك المسألة بالذات، تبين أن تكرار مقطوعات موسيقية أو غنائية فى خلفية عمليات الشراء، يؤثر بدرجة كبيرة.

فإن كانت موسيقى ممتعة من دون كلمات، ذات إيقاع بطىء، أدى ذلك إلى التأثير إيجابياً على مشاعر العملاء وإدراكهم للوقت، وتصورهم للمتجر، وأيضاً نواياهم الشرائية، حيث تتضح الرؤية ويصفو الذهن فنتذكر كل تلك الأشياء التى نرغب حقاً فى شرائها، الأمر الذى يؤدى فى النهاية إلى زيادة الوقت الذى يقضيه العملاء فى المتجر ومن ثم المكاسب بالطبع، والعكس صحيح، فتكرار أغانٍ بعينها، بشكل رتيب وممل، خاصة إن كانت مزعجة أو مؤذية نفسياً بشكل أو بآخر، قد تدفع البعض إلى مغادرة المتجر بسرعة، وتقليل نية الشراء، لذلك ينصح الخبراء بحسن اختيار «البلاى ليست» لتحسين تجربة التسوق وزيادة رضا العملاء، وهو ما لم أشاهده أخيراً سوى فى مترو الأنفاق، حيث مجموعة من المقطوعات الموسيقية الطيبة والرائقة التى خففت كثيراً من وقع الزحام، وطول المشوار!

لكن مهلاً، فالمأساة لا تنتهى عند باب الخروج من «السوق» أو «السوبر ماركت»، الأثر يمتد، حيث يؤدى سماع أغنية واحدة من خمس إلى عشر مرات متتالية وربما أكثر إلى الإصابة بما يعرف بـ«دودة الأذن» تلك الظاهرة المقيتة، حين يعلق لحن أو أغنية فى ذهنك، ويظل يتردد لوقت طويل، حيث تواصل أدمغتنا معالجة المعلومات الموسيقية حتى بعد الانتهاء منها، ما يؤدى إلى تكرار المقاطع فى الذهن بطريقة آلية لأيام لاحقة.

أما الكابوس الأكبر الذى لا أود حقاً الحديث عنه هو أن تكون جاراً لأحد تلك المحال، فتجدك مضطراً إلى الاستماع قسراً إلى «بلاى ليست» تتكرر دون هوادة على مدار اليوم، أو ربما تكون موظفاً بلا حول ولا قوة، عليه أن يستمع فى صمت إلى هذا الكابوس اليومى الذى يحيل المناسبات السعيدة جحيماً!