في ساحة العدالة

مشهد فريد ومثير يحكي عنه القرآن الكريم وسجلته الآية الكريمة التي تقول: «وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً».

نحن أمام مشهد تحتضنه جهنم وبئس المصير، يسجل فيه مجموعة من البشر العاديين اعترافاً بأنهم أطاعوا سادتهم وكبراءهم فأضلوهم السبيل، ثم يتوجهون بالدعاء إلى الله أن يلعن هؤلاء المضلين ويؤتهم عذاباً مضاعفاً جزاء ضلالهم وإضلالهم.

نحن هنا أمام الوجه البشع للوثنية الفردية التي تبلور حال المجموع حين يخضع لأفراد ضالين يتصدرون المشهد بداخله. السادة والكبراء في هذه الحالة يمثلون المعادل الموضوعي للأصنام التي كانت تعبدها المجتمعات محدودة الأفق خلال مرحلة معينة من مراحل تطور البشرية، فالحجارة التي سوّاها هؤلاء المحدودون آلهة يعبدونها كانت تعبر في الأصل عن شخصيات أجلّها واحترمها المجموع.

واكتسبت بعد رحيلها عن الحياة نوعاً من القداسة، ومع بُعد الأمد بينها وبين الزمن المعيش اتجهت بعض الأجيال الجديدة إلى تجسيدها في تماثيل تخلّد ذكراهم، ثم أضلهم الشيطان فعبدوها من دون الله.

لكل مجتمع، مهما اختلف الزمان وتباين المكان، سادته وكبراؤه، ويتمتع هؤلاء بقدر من التأثير الواضح على المجموع، فإذا اهتدوا زادوا المجموع هدى، وإذا ضلوا أضلوا من حولهم إن لم يمتلك المجموع ضمائر ترفض امتصاص القيم السلبية التي يحاول السادة والكبراء إشاعتها في الواقع، وهى القيم التي تتبلور حول مفهوم الفساد.

فحين يفسد المتصدرون للمشهد يكون أمام المجموع الذي يقبع أسفل منهم أحد طريقين: الطريق الأول هو رفض الفساد وعدم الانصياع له، والطريق الثاني هو التصالح مع الواقع الفاسد والعيش بقوانينه.

حوادث التاريخ تقول إن رحلة الفساد داخل المجتمعات تبدأ من الكبار والسادة، فإذا انتقلت العدوى منهم إلى المجموع فلا تسأل عن مستقبل.

حين تنتقل عدوى الفساد من الكبار إلى الصغار فإن ضمير الصغير يتقبل الفساد كجزء من الواقع العام، وما أكثر ما يردد «زيي زي غيرى» ليبرر لنفسه ما يفعل.

محاولة التمحك بالغير بهدف تبرير فساد الذات لا تعدو أن تكون طريقة من الطرق التي يتبعها أصحاب الضمائر المهتزة لتبرير الأفعال الفاسدة، والله تعالى مطلع على قلوب البشر، وقد كان من اللافت أن يوجه الله تعالى البشر، بعد الحديث عن علاقة الضعفاء بالسادة والكبراء في سورة الأحزاب، إلى الطريقة التي يتوجب أن يتعامل بها المجموع مع فساد المتصدرين للمشهد، وهى القول السديد، يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً».

القول السديد هو القول العادل الذي يصف الأشخاص وتفاعلات الواقع بموضوعية وحيادية، والقول السديد لا يصدر إلا عن أصحاب القلب السليم والضمير المستقيم، وبمثل هذا القول تنصلح الأحوال ويزول الاعوجاج عن الحياة.

لقد أكد القرآن الكريم على فردية الحساب. يقول تعالى: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ»، ويقول: «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً»، ويقول: «كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»، وبالتالي فالتمحك بالسادة والكبراء في تبرير الفساد لا يجدى أمام عدالة السماء قدسية الأحكام والميزان.