شرط محبة الست

عماد فؤاد

عماد فؤاد

كاتب صحفي

هناك شرط لازم كي تُحِب صوتَ كوكب الشرق أم كلثوم، وهذا الشرط نبهتني إليه قبل خمسين عاماً إحدى جاراتنا في حي الجمالية، حيث وُلدتُ وعشتُ طفولتي وصباي. كنتُ أشاهد برنامجاً تليفزيونياً، وفي نهاية إحدى فقراته أجاب الضيفُ أنه يُحب سماعَ أغنية لأم كلثوم، فتبرمتُ و«بَرْطَمْتُ»: «هو مفيش غير الست دي؟ حاجة تزهق»، فقطعت الجارةُ حديثها مع والدتي، وسألتني بجدية: «أنت مبتحبش الست؟»، فأجبتُ بحماس ورعونة: «لأ».

فردتْ بحسم: «بكرة لما تكبر هتفهم وتحبها».علقت كلماتُ الجارة في ذهني لسنوات، وأنا أتعجل «الكِبَر» كي أفهم وأحب أم كلثوم، وهو ما حدث فعلاً. إذن، هذا هو الشرطُ الذي رصدته جارتنا بذكائها الفطري، رغم أنها لا تقرأ ولا تكتب: أن تتجاوز مرحلةَ الطفولة، ويَزْهو عقلك، وتنضج مشاعرك، فتستطيع الفهم.

وحينها، دون أن تدري، تجد نفسك من مريدي أم كلثوم، مُنصتاً لأغنياتها بصوتها وكلماتها وألحانها.

واختبرتُ تحققَ شرط محبة الست مع أولادي، فعندما لمحتُ «زهقهم» من كثرة إذاعة أغنياتها، رويتُ لهم حكايتي مع جارتنا وكلمتها المأثورة: «بكرة لما تكبر هتفهم وتحبها».

وتحقق الشرطُ مع أولادي.. كبروا وفهموا.. فأحبوا أم كلثوم، وصارت مطربتهم الأولى، ثم تلاهم باقي المطربين الذين يسمعهم الشبابُ، كل حسب جيله. وهذا الشرطُ نفسُه هو سِر خلودها، وبقائها على القمة رغم رحيلها عن دنيانا منذ نصف قرن.

أجيال تُسلِم أجيالاً حُب هذا الصوت الأسطوري القادر حتى الآن على اختراق قلوب الملايين، ممن لم يعيشوا عصرها، لكنهم يتذوقون إبداعها، مستسلمين بكل أحاسيسهم لهذا الصوت الذي تجاوز في تأثيره حدود الزمان والمكان.

لا يمكن تأمل سيرة أم كلثوم ومسيرتها باعتبارها مجرد مطربة، فقد صارت رمزاً ثقافياً تلامس أغانيها وجدان كل الناطقين بالعربية، وتتردد كلماتها على ألسنة العرب من المحيط إلى الخليج، غاذيةً فيهم الفخر بالهوية العربية، بعد أن حولت الغناء العربي إلى تراثٍ إنساني عالمي.

وفي عالم اليوم المليء بالتحديات والتعقيدات الاجتماعية والسياسية، يظل صوتُ أم كلثوم صدى لآمال الناس في الشدة، وأحلامهم في الفرح. جاءت أم كلثوم ضمن قائمة «أعظم المطربين في التاريخ» التي نشرتها مجلة «تايم» الأمريكية عام 2010، كما أدرجتها منظمة اليونيسكو في قائمة الشخصيات التي أثرت التراث الإنساني، بعد أن حولت الغناء العربي إلى تراث عالمي. من القرية المصرية خرجت أم كلثوم، لتصنع صورة المرأة القوية القادرة على التأثير لا محلياً فحسب، بل على مستوى الإقليم كله، مُثبتةً أن المرأة يمكنها أن تكون فاعلةً وملهمةً وقائدةً في الفن والحياة العامة.

أم كلثوم كانت، وستظل دائماً، كوكب الشرق الذي لا يغيب... أيقونة الخلود في سماء الفن.