أم كلثوم وفرنسا
أعادت الاحتفالات العامة بالذكرى الخمسين لرحيل كوكب الشرق المطربة التي لا نظير لها أم كلثوم، إلى ذهني، احتفال التليفزيون الفرنسي بحفل الأولمبيا الفرنسي لسيدة الغناء العربي في عاصمة النور، كما يطلقون على باريس، عام 67.. فقد روى رئيس دار الأولمبيا آنذاك برونو كوكاتريكس ما دار في لقائهما، وكيف أنها استفسرت بجدية تامة عن أتعاب فرقتها الموسيقية، سألها عن عدد الأغاني التي ستشدو بها، فأجابت بأنها ستُغنى أغنيتين أو ثلاثاً.
ظهر الفزع على وجه كوكاتريكس، وهو يسألها أن أغنيتين أو ثلاثاً، يحتاج إلى ربع الساعة، لأن الأغنية الفرنسية تستغرق خمس دقائق، ابتسمت أم كلثوم، وقالت له بأن يطمئن.. ولكن الشك تمكن منه، إلا أنه امتثل لدعوة الاطمئنان، وواصل الرجل شهادته وهو يحكي عن فزعه بعد أن بقى يوم واحد على موعد الحفل ولم يبِع ولو ربع التذاكر وهو ينعى حظه، ويتحدث عن «خراب بيته»، وقال إنه، لحُسن الحظ، كان قد اتفق مع قناة تليفزيونية على إذاعة نبأ إحياء أم كلثوم حفلاً في باريس يوم وصولها من القاهرة، وما تم ذلك حتى تدفّق المئات إلى شباك التذاكر، وتم بيع كل التذاكر، وفي ذلك اليوم توجّه شيخ أو أمير عربي، كما قال كوكاتريكس وطلب تذكرة، وعندما قيل له إن التذاكر نفدت، عرض شراءها بأي ثمن، وإزاء التأكيد بنفادها أخرج مسدساً وهدّد بالقتل، فهرع كوكاتريكس ووعده بإضافة مقعد في الممر بين صفىّ المقاعد الأمامية.
واطمأن الرجل، وأعاد مسدسه إلى جيبه.. وأعرب صاحب الأوبرا عن دهشته لدى غناء أم كلثوم أولى أغنياتها، التي استغرقت نحو الساعة، وسط صراخ المتفرجين نشوة وإعجاباً، حتى إن البلكون الذي كان مزدحماً بالكثير من اليهود، كان هؤلاء يدبدبون بأقدامهم ويصرخون بصيحات الإعجاب، ولما سألهم كيف يحبون مطربة تكره إسرائيل وتشدو بأغانٍ معادية لها، أجابوا بأنها بالنسبة لهم أجمل صوت في العالم، وبهذا الصدد أكد الفيلم الوثائقي أن أبحاثاً كثيرة أجريت وأكدت أن صوت أم كلثوم هو أقوى صوت في تاريخ البشرية، وأنه يساوى أصوات ماريا كالاس مغنية الأوبرا الشهيرة، وأكبر مغنية فرنسية، أديت بياف، ومطربة أمريكية، لا أتذكر اسمها.
وعرج الفيلم على مكانة كوكب الشرق الرفيعة بين زعماء العالم العربي، من ملوك ورؤساء جمهوريات، وكيف كانت حرارة استقبالهم لها واحترامها، من أكثر ما أسعدني هذا اليوم ما رواه الفيلم من الإشارة إلى إرسال الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديجول برقية ترحيب بأم كلثوم، وقال معلق الفيلم إن كوكب الشرق أجابته ببرقية، من رئيس دولة إلى رئيس دولة تشيد بموقفه المحترم من القضايا العربية.
وأتمنى من قلبى أن يحصل التليفزيون المصري على هذا الفيلم الوثائقي وإذاعته في مصر، حيث إنه عنوان لمكانة الفنان الوطني الملتزم، الذى يحظى بالاحترام من كبار قادة العالم، وليس من يبيع الشرف والوطن مقابل المال الحرام.. إن أم كلثوم ستظل قيمة وطنية خالدة ورائعة ومثالاً يُحتذى في حب الوطن، حيث إن سجل أغانيها الوطنية ودعم قضايانا بصوتها الفريد ودفاعها عن هذه القضايا بأمضى سلاح وهو الفن، يُؤثر تأثيراً إيجابياً، ويعتبر نبراساً مُضيئاً لدور القوة الناعمة، حتى لو كان بإمكانيات أكثر تواضعاً من صوت كوكب الشرق.