«جوز الاثنين»
لم يبدُ لي الأمر صدفة أبداً أن أقابل القصة ذاتها على مدار يومين متتاليين، قُدر لي فيهما أن أكون جزءاً من حكاية تُروى لي عنوة، فأجدني وقد صرت جزءاً من أحداثها، وكي لا أطيل إليك ما جرى.
ككل ركاب الميكروباصات في مصر، لم يكن لى حيلة في شيء، لم أجرؤ على الاعتراض على دخان السجائر التي تقتحم صدري في دفعات طوال الرحلة، ولا على السرعة الفائقة التي تعالت معها دقات قلبي على طول الطريق، فصارت المنحنيات كابوساً، كما لم أكن قادرة أيضاً على منع تلك القصة العجيبة من اقتحام أذني، لذا استسلمت لتفاصيلها على أمل أن أصل إلى مقابلتي في الموعد.
بدأت الحكاية مع سؤال عامر بالعشم والمحبة، وجّهه السائق إلى الرجل الجالس بجواره، ولم أعلم حقاً السر وراء رفع صوته بهذه الطريقة، هل يرغب حقاً أن نسمع جميعاً ما يقول؟ أم أن تلك طبيعته، كان السؤال يقول: «هتجيلي يوم الخميس الجاي؟ أنا مش عاوز حد غيرك يشهد على العقد».
السائق الذي بدا لي في عقده الخامس، كان متحمّساً جداً، ظننت أن الأمر يتعلق بابنته، لكن زميله رد باستغراب: «يا راجل أنا كنت فاكرك بتهزر، صحيح هتتجوز؟»، هنا ازدادت حيرتي، هل يمكن أن يكون هذا الكهل المتحمّس عازباً حتى هذه اللحظة، إلا أن حيرتي لم تطل، حيث عاجله: «أنا أحب أمشي دوغري وماليش في الحرام»، كنت على وشك أن أمنحه احترامي في تلك اللحظة، إلا أن كل شيء انهار حين جاءني رد زميله: «طيب والاتنين التانيين موافقين؟».
اتسعت حدقة عيني وصرخت في سرى «اتنين؟» لكن الرجل الذي كان قد اعتدل في جلسته ورفع رأسه لأعلى بطريقة لافتة، رد بثقة شديدة: «يوافقوا ولا ما يوافقوش، محدش له عندي حاجة، هاتجوز التالتة يوم الخميس اللي جاي واللي يعرف يعمل حاجة يعملها، همّ إيه اللي ليهم، أكلهم وشربهم وبيوتهم مفتوحة، عاوزين إيه تاني».
رددت في سري وقد ارتسمت ابتسامة على وجهي: «صحيح عاوزين إيه تاني الراجل هيقطع نفسه؟»، رد زميله: «ما دام مكفيهم خلاص على بركة الله وأنا معاك»، فرد السائق: «ده العشم يا حبيبي، أنا مش ناسي وقفتك جمي لما كنت تعبان، سنتين قاعد في البيت من غير شغل بعد العملية، ماسندنيش غير نسواني وعيالي، وأنت اللي كنت بتتصل يا غالي، ماتحرمش منك».
كنت عند تلك اللحظة قد وصلت إلى وِجهتي، لكنني لم أتخيل أنني وفي اليوم التالي سوف أستمع إلى القصة ذاتها مع اختلافات بسيطة على لسان سائق آخر، كان هذه المرة يتحدث في الهاتف بغضب مع سيدة على الطرف الآخر، يبدو أنّها كانت غاضبة، أو ربما تبكي، بدا ذلك من صوتها الذي تناثرت أجزاءه خارج السماعة ليسمعني أنا التي جلست في المقعد الأول خلف السائق مباشرة، قال لها: «ده شرع ربنا، أنتي هتعترضي على دي كمان»، لكن يبدو أنها كانت غاضبة جداً، وتطلب الطلاق بإصرار، فهتف فيها: «طلاق مش هاطلق، أنا وقفت جمبك لما كان عندك مشكلة في الخلفة، وصارف عليكي 18 ألف جنيه لحد لما خلفتي العيلين، أنا مش هاسيبك، وطلاق مش هاطلق، ولازم تقدّري ظروفي».
رق قلبي لهذا الزوج المتمسّك بزوجته، رغم رياح التغيير التي بدا أنها تضرب حياتهما في تلك اللحظة، لكن المكالمة التي انتهت نهاية مفتوحة أصرت فيها هي من ناحية على الطلاق، وأصر فيها هو على التمسّك بها، أعقبها نقاش حاد مع الراكب المجاور للسائق، والذي أثنى على تمسّكه بزوجته، قائلاً بنبرة امتنان: «والله اللي زيك قليلين» فرد السائق بشموخ: «أنا استويت يا جدع، الأولانية ساعة الطلاق قالت لك مؤخري وحقوقي، ودي دلوقتي مش عاجبها، عاوزة تتطلق عشان هاتجوز التالتة، فيها إيه لما تعيش وتربي عيالها؟»، فرد الرجل إلى جواره: «عندك حق، الست اللي عاوزة تعيش بتسكت وبتكمل علشان تحافظ على البيت، مش أي جوازة جديدة ولّا نزوة تقول لك أتطلق»، فأمّن السائق على حديثه بقوله: «وأنا بقى كل ما أحب أتجوز واحدة جديدة القديمة تقول لك حقي ومستحقي، لا طبعاً، طلاق مابطلقش، واللي مش عاجبها تروح تصرف في المحكمة وتخلعني، مش هدفع في جوازة جديدة وجوازة قديمة كمان، هو أنا قاعد على بنك؟» حسناً، هذا يفسر ما أوردته النشرة السنوية لإحصاءات الزواج والطلاق لعام 2023، حيث جاءت معدلات الخلع لتكون الأعلى على الإطلاق بزيادة بلغت 81.3% على أساس سنوي.
لم أكن أفكر في شيء سوى الناتج النهائي لتلك المعادلات البشرية المعقّدة، أولاد هذا وذاك، الذين لا يفتقدون وجود أب يعمل على مدار ساعات اليوم وحسب، لقرابة الـ10 ساعات، ولكنهم يفتقدون أكثر إلى الشعور بالأمان، لم يذكر أيٌّ من الرجلين شيئاً عن احتياجات الأولاد أو عددهم، وتعليمهم، واهتماماتهم، أو ربما رياضتهم، لم يكن الأمر بالنسبة لهما سوى توفير الطعام والشراب، كأنهما يرعيان بقراً أو نعاجاً، لم تغب أىٌّ من القصتين عن بالي على مدار الأيام التالية، فهما اثنان من آلاف، وربما ملايين، من أرباب الأسر الذين يواصلون إنجاب أطفال دون أدنى مسئولية أو شعور بذنب، يواصلون الزواج، والهروب، وأكل الحقوق، المادية والمعنوية، ربما لأجل مواقف كتلك جاء الحديث الشريف: «كفي بالمرء إثماً أن يضيع من يعول».