بعد 60 سنة من العقم.. الشعب يسترد الثقة فى المشروعات القومية

بعد 60 سنة من العقم.. الشعب يسترد الثقة فى المشروعات القومية
من «أكيد خدعة»، إلى «دى اتكروتت»، مروراً بمسميات «الفنكوش» و«على الله تفلح»، مر مشروع قناة السويس الجديدة بعدد من التحديات، عبرت عنها المسميات والانطباعات السابقة بدقة، ليس لازماً أن يكون مصدرها كارهو الدولة وأعداء الوطن سواء من الإخوان أو غيرهم، فالتشاؤم الذى أبداه البعض حيال المشروع، لم يكن مبعثه الموقف السياسى من الرئيس السيسى، بقدر ما كان منطلقاً من كونها «عادة مصرية»، عبر عنها البعض بالقول: «هو من إمتى الدولة أعلنت عن مشروع وشفناه بيتحقق قدام عنينا؟».
التساؤل الساخر يعكس ميراث الغضب واليأس لدى جمع ليس بقليل من المصريين، ممن فرحوا برؤية المشروع أمامهم فى غضون العام كما أعلن الرئيس، وفى الوقت نفسه تؤرقهم مخاوف الفشل أو عدم الجدية، ينتظرون حفل افتتاح القناة فقط ليقضوا على مشاعرهم السلبية هذه أو يؤكدوها، وعذرهم الوحيد فى هذه المشاعر هو التاريخ الطويل من التسويف والفشل فى الانتهاء من مشروعات ظلت لسنوات طويلة ملء السمع والبصر.
توشكى.. ظل الاسم علامة على مشروع استهلك من قلوب وعقول المصريين سنوات، الكل يصدق وعود الرخاء والتنمية التى أعلنها الرئيس الأسبق مبارك فى 9 يناير 1997 مع بدء انطلاق العمل فى المشروع، لتبقى الوعود مجرد كلمات، بعدما توقف المشروع عند مرحلة الإطلاق، حلم بإضافة 540 ألف فدان للرقعة الزراعية مر عليه 18 سنة تآكلت خلالها الأرض الزراعية بأنحاء الجمهورية أضعاف هذا الرقم.
عام واحد فقط يفصل الحلم الأول عن حلم شرق العوينات، المشروع التالى على لائحة مبارك أيضاً، الذى انطلق بدوره عام 1998، عشرات المشاريع الصغرى والكبرى تبنتها العائلة الحاكمة، أبرزها ذلك الذى أطلقه الرئيس الأسبق ضمن مشروعه الانتخابى فى 2005 حين وعد بمشروع قومى للإسكان يقدم للمصريين سكناً حقيقياً لكن النتائج خرجت مشوهة، حيث لم يتسلم البعض وحداتهم حتى تاريخ كتابة هذه السطور، فيما تسلم آخرون وحداتهم بلا مرافق وسط كثير من المخالفات التى لم يملكوا حق الاعتراض عليها.
بحث سريع على محرك «جوجل» يظهر عشرات النتائج الدالة على حال مشروع مبارك للإسكان «ضحايا مشروع مبارك للإسكان»، «المتضررون من إسكان مبارك» وغيرهما، مشروعات علق عليها الكثيرون آمالهم فى سكن آدمى يتسلمونه عقب المدة المحددة بثلاث سنوات، التزموا فى دفع أقساطهم لكن الدولة لم تلتزم تجاههم، حتى المشروعات التى تبنتها عائلة مبارك باءت بالفشل أيضاً، فالمعهد القومى للأورام الجديد، الذى أطلقته سوزان مبارك، والعاصمة الإدارية الجديدة، التى خرج بها جمال مبارك، لم يحظ أى منهما بالانتهاء ولو من مرحلة واحدة على أرض الواقع.
«تنمية شمال سيناء»، «فوسفات أبوطرطور» عناوين أخرى للفشل، لكن المسألة ليس مقتصرة على عهد «مبارك» فقط، هذا ما يؤكده المواطن جمال بكير، الطبيب الجراح، الذى عايش عهود الرؤساء منذ محمد نجيب وحتى الآن، لطالما انتشى بأخبار المشاريع الطيبة التى أعلنها رئيس تلو الآخر، لكنه منى بخيبات الأمل أيضاً واحدة تلو الأخرى، حتى إنه لا يشعر بسعادة تجاه مشروع القناة الجديدة.
«خلاص اتعلمت إنى ما أصدقش الحاجة غير لما أمسكها بإيدى، حتى القناة الجديدة، الناس مخرّمة ودانها إن الفلوس هتهل علينا ودا مش هيحصل لأنى راجل واقعى، لما يبقى فيه مشروعات ضخمة حوالين القناة وصناعات حقيقية ومجالات تجارية واستثمارية جادة ممكن ساعتها أصدق، إنما اللى حاصل ده مجرد بداية».
«بكير»، السبعينى، ما زال غاضباً حتى الآن من الوعود الزائفة التى تلقاها أثناء بناء السد العالى: «أول مشروع اتصدمت فيه كنا لسه عايشين الدور وعمالين نردد يا ناصر يا حرية يا ناصر يا اشتراكية، قالولنا كيلو الكهربا هيبقى بنكلة، يعنى اتنين مليم ونص، فرحنا أوى، قبلها على طول كان بادئ مشروع تسليح الجيش المصرى بسلاح من دول مختلفة زى التشيك وغيرها، والنتيجة اللى شفتها بعينى النكسة من ناحية وفاتورة الكهرباء اللى جاتلى من يومين بألف و800 جنيه، راجل على المعاش أسكن وحدى وفاتورتى بهذا الرقم!!».[FirstQuote]
العناوين الكبرى لمشاريع بعد السد أغرت «بكير»: «شفنا الكلام عن مشروع مديرية التحرير فى طريق إسكندرية عملوها عشان يزرعوا الأراضى ويوزعوها على الفلاحين، كل دا انتهى، والطريق بقى ملاعب جولف وقصور ومزارع خاصة، حتى مشاريع الثورة اتبهدلت، بما فيها شغل عثمان أحمد عثمان اللى أطلق مشروع الصالحية وكان بيطلع خيرات ملهاش أول ولا آخر، ومشروع تسمين الأبقار.. كل دا راح».
مع الوقت تحولت المشاريع إلى مجرد عناوين تمر على مسامعه فتشعره بالحسرة على الملايين التى ستذهب هباء: «السادات قال وعمل العاشر من رمضان، بعد فترة بقت لقمة فى بق المستثمرين يشتروا الأرض ويسقعوها ويبيعوها بملايين، ومن بعده مبارك ومشاريعه الكتير، شرق التفريعة بتاعة بورسعيد وترعة السلام اللى اتنست وكان مفروض تزرع آلاف الأفدنة فى سينا، وقفت والإرهاب اشتغل، قالوا توشكى والناس حذرتهم وبرضو صمموا ونفذوها غلط، حتى أكبر مشروع الدولة المفروض تشتغله وهو المواطن اللى حاسس بانتماء فيه فشل».
محمد مفتاح، مواطن آخر عانى شخصياً من فشل المشاريع المعلنة، وتحملها من جيبه الخاص: «ساكن فى إيجار من ساعة ما اتجوزت، قرأت فى الجورنان عن مشروع إسكان شباب الجيزة عام 2008 فرحنا وقلنا أخيراً هنشوف من مبارك حاجة، وعدونا هيخلصوا عام 2011 قلت هينة ودفعت 5 آلاف جنيه، وقدمنا الورق ودخلنا قرعة وكسبنا، وجيت فى ميعاد التسليم أزور الأرض لقيتها صحراء جرداء».
صدمة للرجل الذى لم يتسلم وحدته حتى تاريخ كتابة هذه السطور: «قامت الثورة ووقفت كل حاجة أكتر ما هى واقفة، بدأنا نشتكى ونروح ونيجى ومجلس الوزراء والمحافظة لما استجابوا وابتدوا يشتغلوا فى المشروع اتعملت الوحدات وفضلت من غير مرافق لا ميّه ولا نور، دا غير إنهم دفّعونا حوالى 9 آلاف جنيه إضافية فروق أسعار عن المدة اللى اتأخروها علينا.. يرضى مين؟».
«الفساد المالى والإدارى هو كلمة السر» بحسب د. أحمد دراج، أستاذ السياسة بجامعة القاهرة، مؤكداً أن هذه المشروعات جميعها كانت لتنجح لولا ما سماه بـ«ألوان الفساد» المتفشية إدارياً ومالياً وفنياً، فضلاً عن أزمة أخرى يراها أستاذ السياسة أساسية فى الفشل المتوالى: «البداية دائماً سهلة، والإعلان عن أمور كبرى وعظيمة أمر يستطيعه أى شخص، لطالما فعله مبارك، لكن أكثر المشاريع كانت تقف عقب خطوة أو اثنتين لعدم وجود إرادة سياسية راغبة فى الانتهاء فعلياً»، «دراج»، الذى رأى فى نجاح القناة الثانية ضرورة، أكد: «نحن بحاجة للنجاح، ولا نملك رفاهية الفشل، فقد استمررنا به وقتاً طويلاً والخوف كله أن يظن البعض بعد هذه الخطوة أننا فعلنا كل شىء ونعود مرة أخرى لحالة الثبات التى كنا عليها».
فرحة مشوبة بخوف تراود الرجل الذى كثيراً ما حلم بهذا اليوم: «هذا المشروع بالذات كان على يد القوات المسلحة لذا كانت عمليات الفساد معدومة، لكن إلى متى ستظل القوات المسلحة هى القائم بالمشاريع؟ ماذا سيحدث حين تتولى بقية الوزارات تنفيذ المشروعات الأخرى المعلن عنها؟ المقارنة ستكون صعبة، خاصة عقب التحدى الذى حققته القوات المسلحة مؤكدة بصورة عملية أنه لا يوجد مستحيل إلا إذا صنعناه بأيدينا فقط».
«دراج» أبدى إعجابه بالمدى الزمنى المحدود لتنفيذ المشروع، مؤكداً: «وقت صغير جداً خلى البعض يشكك فيه، البعض شاف إنه لم يدرس دراسة كافية، والآخر شاف إنه مجرد وسيلة لإعطاء شرعية جديدة للرئيس، وغير ذلك الكثير، لكن وجهة النظر المتفائلة تراه مجرد بداية، وأنه يكون قاطرة لمشروعات أخرى».. العضو البارز سابقاً فى «كفاية» أكد أن الموضوعية مطلوبة فى الفترة المقبلة: «التضخيم المبالغ فيه أفسد مشاريع مبارك، وأخشى على مشاريع العهد الجديد أن يصيبها الداء نفسه فيحملها الإعلام ما لا طاقة لها به، الموضوعية والإنجاز الحقيقى هما الأساس كى لا تتحول القناة الثانية إلى مجرد حالة طارئة تنتهى بعد قليل، أما المشككون والخائفون من تكرار سيناريوهات مشاريع مبارك الكبرى، فالنجاح هو الإجابة الحقيقية عليهم خلال المرحلة المقبلة، التى ينتظر خلالها استكمال المشاريع المكملة وهى الأكثر أهمية، المشاريع الخدمية على شاطئ القناة».
تفاؤله بمشروع القناة الجديدة يتناقض وحالة اليأس التى كانت تنتابه كلما أعلنت الأنظمة السابقة عن مشروعات قومية لا تنفذ على أرض الواقع، يصفها د. سامى عامر، خبير التخطيط، بأنها مجرد «فرقعات»، ويزيد على الوصف: «عبارة عن مشروعات لم تكن الدولة لتستطيع تمويلها كلها، فضلاً عن فشل العديد منها من الأساس كمشروع توشكى الذى قابله العديد من العلماء بالرفض منذ كان مجرد فكرة، وقد كنت أحد الخبراء الذين قابلوا (الجنزورى) فى محاولة لإثنائه عن الفكرة دون جدوى، كانوا ليوفروا ملايين عدة لو أنهم استمعوا فقط لصوت المتخصصين».
العميد السابق لكلية التخطيط العمرانى أشار إلى أن الظروف المالية فى مصر لها خصوصية شديدة تجعل انطلاق عدة مشاريع فى الوقت نفسه أمراً مستحيلاً: «مشروع قناة السويس الثانية ليس جديداً، الجديد هو الإرادة السياسية التى اتخذت القرار بتنفيذه، بعيداً عن الفساد وكل ما من شأنه أن يقف حجر عثرة، وقد كان كل شىء واضحاً وبمعاونة الناس بداية من طريقة تمويله المحترمة جداً بأموال الشعب، والتى علم الجميع منذ اللحظة الأولى أنها أموال يضعونها ليس استثماراً بقدر ما هى مساهمة منهم، أى مشروع يقف وراءه الجيش والشعب كيف يمكن أن يفشل؟».
وأكد أن «جهات مدنية عدة شاركت فى التنفيذ، لكن الإدارة والإشراف كانت للجيش وهنا الفارق الحقيقى، فالجيش هو المؤسسة الوحيدة القادرة على وضع برنامج وتنفيذه ومتابعته بصورة جيدة، فمهما ظهرت من أزمات أو مشكلات تظهر العقيدة الراسخة فى الجيش «اتصرف»، أستاذ التخطيط وصف مشروع قناة السويس الجديدة بالأساسى والرائد: «فيه ميزات كبيرة جداً، مش قضية إنه مشروع قومى، لكن هيخلق مشروعات تانية تغير الأنشطة التقليدية اللى المصريين عايشين عليها، هنحصل على رأس مال من خارج الدولة، تضيف للناتج القومى وتوفر 2 مليون فرصة عمل، الناس متصورة إن حفر القناة هو المشروع، لكن العائد الحقيقى مستهدف من المشروعات المحيطة بالقناة واللى متوقع إنها تدر دخل سنوى من 50 لـ100 مليار، ولحد دلوقتى المشروع ماشى كويس».
مشروعات عدة انطلقت وتوقفت، لكن واحداً منها كان ولا يزال يمثل لأستاذ التخطيط أهمية خاصة: «مشروع الطاقة النووية من المشروعات اللى بدأت وتوقفت، أعلنها مبارك وحدد مكانها وتوقفت، كان لازم تتعمل من زمان، وإلا ماكناش نبقى فى الأزمات اللى حصلت فى الكهرباء، التوليد تراجع لأن الإنتاج قل، ضرورى نشوف الصالح من المشاريع المبتورة ونكمله ونوقف الفاشل منه تماماً، زى توشكى، كفاية تضييع فلوس، التركيز لازم يكون على المشاريع المنطقية زى شبكة الطرق والموانئ، نشوف الأهم فالمهم ونوفر التمويل اللازم».