إعادة تأسيس الجهاز الإدارى للدولة.. . ضرورة وطنية (2 -3)
لا تزال الأنباء تتوالى عن مشكلات الجهاز الإدارى للدولة بما يؤكد حتمية التصدى بكل الحسم لقضية إعادة تأسيس ذلك الجهاز قبل أن تصل مقدرات الوطن إلى موقف بائس تبدد فيه موارده وتهدر فرص التنمية الحقيقية، كما يشيع الفساد وينتشر الإحباط على كافة المستويات نتيجة الأداء المتردى ذلك الجهاز!
وخلال الأسبوع الماضى ارتفعت نغمة الاعتراضات على قانون الخدمة المدنية رقم 18 لعام 2015، على خلفية احتكار السلطة الإدارية لقرارات التعيين والترقية بالأساس، والتخوف من انخفاض الرواتب بعد تطبيق القانون!
وبغض النظر عن صحة أو خطأ تلك الدعاوى ضد القانون، فتلك الضجة المثارة هى نتيجة طبيعية لانتهاج الحكومة المنهج الأسهل والأقل جدوى فى الإصلاح الإدارى، وهو تغيير أو تعديل القوانين الحاكمة للجهاز الإدارى للدولة، على أمل أن يسهم القانون فى حلول للمشكلات التى يعانى منها ذلك الجهاز! إن البدء بتغيير القوانين من دون إعادة النظر فى الدور الذى ينتظره الوطن من وحدات الجهاز الإدارى، سواء على المستوى المركزى أو المحلى، ودون وضوح الرؤية والأهداف الكلية للإصلاح الإدارى، إنما تضع العربة قبل الحصان، فالقانون هو إطار لتنظيم أوضاع وعمليات وأنشطة وعلاقات وحدة معينة من الجهاز الإدارى المطلوب إصلاحه، ومن ثم لا يكون هناك معنى أو جدوى لتغيير التشريعات القائمة ولا ابتكار تشريعات جديدة قبل أن يتم الاتفاق على مهام الجهاز الإدارى ومستويات الكفاءة المطلوبة فى أعضائه وتقنيات العمل به، وبالتالى تحديد أهدافه والنتائج المتوقعة منه، وبذلك يكون التطوير التشريعى أداة مهمة فى توجيه الجهاز الإدارى نحو تحقيق الغايات المرجوة منه وضمان عدم انحرافه عن المسار المخطط والمستهدف من وجوده. وفى هذا الإطار يصبح حتمياً أن تتوجه جهود إعادة تأسيس الجهاز الإدارى للدولة إلى جهد علمى وسياسى ومجتمعى بالدرجة الأولى، لتحديد صياغة جديدة لدور ذلك الجهاز فى ضوء التغيرات فى المجتمع المصرى، التى غيرت من طبيعة دور الدولة ذاتها، فمن الواضح أن نمط الدولة المركزية لا يصلح للواقع المصرى الآن ولا يتفق مع التوجهات الديمقراطية التى قام الشعب بثورتيه من أجل ترسيخها، كذلك تأكدت عدم صلاحية النهج الذى اتبعته الدولة فى عصر الانفتاح الاقتصادى والتحول نحو القطاع الخاص وطرح برنامج لخصخصة شركات القطاع العام، واتجاهها إلى الانسحاب من مجالات الاستثمار فى الصناعة وقطاعات الإنتاج المختلفة، وسعيها للتخلص من مسئولياتها فى قطاعات الخدمات المختلفة. إن مسئوليات الدولة فى العصر الديمقراطى تتمثل بالدرجة الأولى فى إعداد وتهيئة البنية الأساسية لإدارة المجتمع وفق قواعد الحوكمة وصياغة السياسات والمعايير والمبادرات المؤدية إلى الاستقرار السياسى، والنمو الاقتصادى السريع، والتنمية المستدامة والتكامل الاقتصادى الإقليمى، بما يحقق أعلى مستويات الرفاهية الاقتصادية والتقدم الاجتماعى والحرية والعدالة للمواطنين، أى إن مسئوليات الدولة تتركز فى وضع الاستراتيجيات والنظم والآليات المحققة للتطوير والنمو فى مختلف مجالات العمل الوطنى، ومراقبة تنفيذها وضبط العلاقات بين طوائف المجتمع المختلفة المشاركة فى العمل الوطنى على كافة الأصعدة. ويأتى الهيكل الوزارى وتشكيلة الوزارات فى مقدمة أولويات إعادة تأسيس الجهاز الإدارى للدولة، بسبب غياب الأسس والمعايير التى يتم فى إطارها تحديد الوزارات وتعيين اختصاصاتها وعلاقاتها ببعضها البعض، ففى أحيان يتم إنشاء وزارات لم تكن موجودة، وفى أحيان أخرى تلغى وزارات قائمة، كما يتكرر ضم وزارات لبعضها أو فصل وزارات كانت منضمة فى وزارة واحدة، وقد تتم تجزئة الوزارة الواحدة لتخليق أكثر من وزارة، وعادة تتم تلك القرارات فى فترة زمنية وجيزة هى الأيام القليلة التى تتاح لمن تم تكليفه بتشكيل الوزارة، ولم يختلف الأمر منذ ثورتى 25 يناير و30 يونيو واستمرت أعمال الفك والضم والاستحداث والإلغاء فى الوزارات مستمرة، فعلى سبيل المثال ضُمت وزارة التنمية الإدارية إلى وزارة التنمية المحلية ثم سُلخت منها وأُلحقت بوزارة التخطيط والرقابة والإصلاح الإدارى، وفُصلت وزارة التعاون الدولى عن وزارة التخطيط لتصبح وزارة مستقلة، واستحدثت وزارة «التطوير الحضارى» للتعامل مع مشكلة العشوائيات!!
إن الخطوة الأولى فى إعادة تأسيس الجهاز الإدارى للدولة أن يستقر التشكيل الوزارى ويتم تأسيسه فى ضوء الاتفاق المجتمعى فضلاً عن الدستورى على المهام الأساسية للحكومة، ثم يتم إصدار قانون لتحديد الإطار التنظيمى للدولة وتعيين القواعد والمعايير والشروط التى يجب الالتزام بها حين إعادة تأسيس الجهاز الإدارى للدولة، شاملاً الوزارات والمصالح العامة والهيئات العامة والمجالس والأجهزة المركزية وغيرها من الكيانات المختصة بتخطيط وإدارة شئون الدولة. والمقترح أن تنظم الدولة على هيئة قطاعات تنموية يتشكل كل قطاع من عدد من الوزارات والأجهزة التنفيذية، يتعامل كل منها مع الملفات الحيوية والاهتمامات الاستراتيجية والتنموية التنفيذية المتناسبة مع اختصاصاته، وفى ذلك التنظيم القطاعى يستثمر كل وزير المصالح والهيئات العامة والهيئات القومية والمجالس العليا والأجهزة المركزية والكيانات المستقلة التابعة له، ثم يكون تعديل القوانين المنظمة لتلك الكيانات لتحقيق درجة أكبر من اللامركزية والاستقلال المالى والإدارى، بحيث يتفرغ الوزير للتخطيط الاستراتيجى وتدبير الموارد اللازمة والمتابعة وتقييم الأداء، وتطوير تقنيات ونظم الأداء، كما يتم التوسع فى نظام «التعهيد» Outsourcing فى تقديم الخدمات العامة وتكتفى أجهزة الوزارات بتصميم معايير وشروط الجودة لتقديم الخدمات بواسطة الشركات والجهات المتعاقد معها والإشراف على مستوى كفاءة وجودة الخدمات بما يحقق رضاء المواطنين، وبالنسبة لوزارات الخدمات التى تمتد أنشطتها إلى المحافظات، يتم تطوير نظام الإدارة المحلية لمنح مديريات الخدمات بالمحافظات مزيداً من اللامركزية حتى يقل اعتمادها على الوزارات المركزية إلى الحد الأدنى. وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله، حيث نناقش خطة الإصلاح الإدارى التى أعدتها الحكومة وفى القلب منها إصدار قانون الخدمة المدنية بديلاً عن قانون العاملين المدنيين فى الدولة!
كلمة أخيرة
هل ساهم تعديل قانون الاستثمار فى جذب مزيد من الاستثمارات؟ وهل منع قانون الكيانات الإرهابية تكوينها؟
الخطوة الأولى فى إعادة تأسيس الجهاز الإدارى للدولة أن يستقر التشكيل الوزارى ويتم تأسيسه فى ضوء الاتفاق المجتمعى فضلاً عن الدستورى على المهام الأساسية للحكومة