كتابة شهادة ميلاد لإسرائيلية على خريطة فلسطين

خديجة حمودة

خديجة حمودة

كاتب صحفي

بعد خمسة عشر شهرا من صور الحرب الدموية على قطاع غزة، وبعد أن امتلأت المحطات التليفزيونية بأفلامها المباشرة المسجّلة على الهواء ومكتبات الصحف وأرشيف كل منها بصور الضحايا والدمار والآليات العسكرية، وسجّلت مراكز الدراسات الاستراتيجية في العالم كله أعداد الهجمات بين الطرفين وأعداد الشهداء والجرحى وتصنيفهم بالسن والمهنة والبلدة والعائلة.

ظهرت في الساعات الأولى من تطبيق الهدنة بين الجانبين صورا لا يمكن أن توصف إلا بأنّها كوميدية، أو بأنّها هي الصورة الحقيقية للكوميديا السوداء، الثلاث أسيرات الإسرائيليات يتسلمن بوجوه مُبتسمة وملابس أنيقة بألوان زاهية مهندمة، شهادة ميلاد وتحرير من الأسر لكل منهن، تقول إنّه تم الإفراج عنها من الأسر والاحتجاز لدى كتائب القسام.

شهادة وُضعت داخل حافظة تُزينها خريطة فلسطين وكأنها تقول لهم وللعالم، حتى لا تنسوا أنّها أرض فلسطين وأننا أصحابها، وهنا كتب التاريخ أسماء آبائنا وأجدادنا والشهداء منهم، ومنها خرجت أشجار الزيتون والبرتقال وجلست تحتها الجدات والأمهات يخبزن الطعام ويطحن الحبوب، والطريف أن ترتسم الابتسامات على وجوههن، وأن يُشرن بأيديهن لمن رافقوهن من رجال حماس إشارات الوداع والشكر والامتنان.

فمن هو صاحب هذه الفكرة العبقرية؟ ومن هم الذين نفذوها؟ إنها الحرب النفسية بلغة المنتصرين وبلغة حرب القرن الواحد والعشرين. وإذا كانت صور المنازل المهدّمة والمباني التي سقطت من قوة القذائف وكثرتها قد تجولت ودارت وطارت في الهواء وشاهدها كل سكان العالم، فإنّ هذا المشهد حدث معه الشيء نفسه، إلا أنّ الأمر اختلف في أنّ هذه العيون التي أصابتها الدهشة من تفصيلاته الصغيرة الموحية التي تحمل رسائل للجميع وللإسرائيليين تحديدا، قد استقرت أكثر في ذاكرة كل من شاهدها، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد ترجمها أطباء علم النفس والاجتماع بأنّها الدليل الحقيقي على انتصار حماس في هذه الحرب.

والحرب النفسية عُرفت قديما بأنّها الحرب المعنوية أو السيكولوجية، وهي من موضوعات علم النفس الاجتماعي وعلم النفس العسكري، وقد اختلف المتخصّصون في معناها اللغوي، فمنهم من يُطلق عليها حرب الأفكار والحرب الدعائية، إلا أنّهم جميعا اتفقوا على معناها القائل إنّها شكل من أشكال الصراع الذي يهدف إلى التأثير في الخصم وإضعاف معنوياته وتوجيه فكره وعقيدته وآرائه لإحلال أفكار أخرى مكانها تكون في خدمة الطرف الذى شنّ الحرب النفسية.

وقد وردت عبارة الحرب النفسية لأول مرة في مؤلف الكاتب الألماني الكولونيل (بلاو)، وكان رئيسا للمعمل النفسي بوزارة الدفاع وقد أصدره عام 1930 بعنوان ما معنى كل الدعاية؟ ووضع فيه أسس الحرب النفسية، ثم شاعت بعد ذلك تلك العبارة في الحرب العالمية الثانية، حيث عرفت بأنّها استخدام أي وسيلة بقصد التأثير في الروح المعنوية، وعلى سلوك أي جماعة لغرض عسكري معين، وبقيت موجودة دائما في معجم المصطلحات الحربية للجيوش.

ففي البحرية الأمريكية، هناك نسخة خطية أُعدت عام 1946 وأعيدت كتابتها عام 1950، جاء فيها أنّ المهمة الأساسية للحرب النفسية هي فرض إرادتنا على إرادة العدو بغرض التحكم في أعماله بطرق غير الطرق العسكرية ووسائل غير الوسائل الاقتصادية، ورغم كونها ليست مثل الحرب المعروفة التي تُستخدم فيها الأسلحة والذخائر، فإنّها لا تقل ضراوة وفتكا عن الحروب العسكرية، فسلاحها الكلمة والصورة التي تُؤثر بالسلب أو الإيجاب في المعنويات، إضافة إلى المشاعر والمواقف وتصرّفات المجموعة المعادية أو المحايدة أو الصديقة لتغيير السلوك نحو الهدف والمقصد الذي وجّهت إليه الحرب النفسية، وذلك دعماً لسياسة أو لأحداث راهنة أو لخطة عسكرية في ظروف الحرب أو الأزمات والمواجهات.

ولهذه الحرب تاريخ قديم، رغم أنّه ينظر إليها دائما على أنّها اختراع حديث، حيث إنّها من أصل قديم، حيث استخدمها (كورش الكبير) ضد بابل و(وزرك سيس) ضد الإغريق، وفيليب الثاني المقدوني ضد أثينا، وخالد بن الوليد ضد الروم، ويوسف بن تاشفين ضد القشتاليين، وعبدالملك السعدي ضد البرتغال، كما استخدمها المغول في العصور الوسطى، وكان لها أثر كبير في توسيع رقعة دولتهم، حيث لجأ جانكيز خان إلى إرسال الجواسيس في بداية القرن الـ11 الميلادي، لبث الرعب في نفوس الأعداء من خلال التهويل وإطلاق الشائعات ومحاولة إضعاف معنويات المقاتلين عبر نشر الأخبار عن أعداد الجيش المغولي الكبيرة وأفعالهم الوحشية، وكان يخدع جيش العدو، فيجعله يعتقد أن جيش المغول أكبر من الواقع عن طريق مجموعة مدرّبة من الفرسان كانوا يتحرّكون بسرعة كبيرة من مكان إلى آخر.

وفي 2025 يمكننا أن نحتفل ونُؤكد أن الفلسطينيين انتصروا وتركوا علامة لن تُمحى من ذاكرة الإسرائيليين عندما كتبوا شهادة ميلاد الأسيرات على خريطة فلسطين، فلنرفع لهم أيدينا بالتحية والتهنئة.