رسالة غزة إلى العالم
عجيب أمر أهل غزة، وصدق من قال عنهم «شعب الجبارين» العصِيّ على الانكسار، فمن رحم هذه الأرض نهضوا شامخين، نفضوا عنهم غبار الحزن فتوارى في لحظات.
مشاهد القتل اليومي والقصف والدمار، وجع الفقد للأهل والأحبة، تناثر الجثث التي لا يعرفون أين ولا متى يوارونها الثرى، المصابون الذين لا يجدون من يداوي جراحهم ولا يسكن آهاتهم وصرخاتهم من شدة الألم، الدماء التي روت الأرض دون توقف على مدار الساعة لـ471 يوما ضاريا، خيام النزوح التي شهدت على تفاصيل مأساتهم وقلة حيلتهم، ثيابهم المهلهلة وصقيع البرد الذي جمد العديد من أطفالهم.
الجوع والعطش والحصار التي نهشت أجسادهم طوال خمسة عشر شهرا، فقدانهم أكثر من 47 ألف شهيد و110 آلاف جريح، كل ذلك تلاشى في لحظة الانتصار التي شعروا بها بمجرد وقف إطلاق النار، ولم يمنع فرحتهم بالعودة إلى بيوتهم المدمرة التي كانت شاهدة ومُوثِقة لأشرس حرب إبادة يشهدها التاريخ الحديث.. وكأنّ شيئا لم يكن!.
من قال إنّ الهزيمة تكمن في الخسارة البشرية والمادية؟ الهزيمة التي يعرفها الفلسطينيون هي كسر الإرادة، وتنفيذ مخطط التهجير، فلا هذا حدث ولا ذاك تمكنوا من تنفيذه، ثباتهم وصبرهم على حرب الإبادة والوحشية الإسرائيلية كانا وقود الأمل في أن يأتي فجر جديد، وهو الذي ساعدهم على الصمود، ومنحهم القوة على الاستمرار ورفض التهجير رغم كل معاني القسوة والمعاناة التي تعرضوا لها.
كانت غزة وشعبها نموذجا يحتذى به في العالم كله، فكيف تكون تلك هزيمة وكل هذه التضحيات الهائلة والآلام الغائرة والدمار المفزع قُدمت قربانا لهذه الأرض وفداءً لترابها؟ فهذا الشعب العظيم الذي يعطي شعورا بالفخر والاعتزاز، سيدخل التاريخ ضاربا المثل في التحدي والتضحية والصمود والصبر، والأهم الإيمان بأن للحرية أثمانا باهظة، لا بد من دفعها مهما كانت التضحيات والتحديات.
ما شاهدناه بالأمس وغزة تحتفل بهذا الزخم والفرح، وتقاطر الحشود الضخمة من الفلسطينيين الذين لم تسعهم ساحتها الشهيرة، يدلل على أنّ خطة الجنرالات، التي حاول جيش الاحتلال تنفيذها في شمال غزة منذ أكثر من ثلاثة أشهر متواصلة، فشلت فشلا ذريعا.
ويؤكد أن الحرب الإسرائيلية على غزة لم تحقق أهدافها، فعندما يبكي بعض وزراء حكومة نتنياهو وهم يصدقون على اتفاق صفقة تبادل الأسرى، ندرك جليا أن إسرائيل هي التي خسرت، وأنّ زمن النصر المطلق نظرية سقطت إلى الأبد، وأنّ الطوفان جرف معه العجرفة والغطرسة الإسرائيلية وأذاق الإسرائيليين طعم الفزع والخوف وانعدام الأمن والأمان، بالهروب إلى الملاجئ كلما انطلقت صافرات الإنذار حتى إشعار آخر.
عطلت الاقتصاد الإسرائيلي الذي تقدر خسائره بـ34 مليار دولار، أزاح وهم القوة التي لا تُقهر ولا تُهزم، وأعاد تشكيل قواعد الاشتباك مع جيش عدو هو الأشرس والأكثر همجية ولا أخلاقية في العالم، إسرائيل في حالة صدمة، فما رأته من أهل غزة وهم يحتفلون أصابها بالجنون، كيف يحولون غزة إلى «شكشوكة» على حد تعبير القناة 12 وسكانها لا يزالون يتمتعون بهذه المعنويات العالية؟!
هنيئا لغزة شهداؤها وصبرها وصمودها، والشفاء لجرحاها وجراحها، فاليوم التالي للحرب يحسمه الفلسطينيون أنفسهم، وحدهم هم أصحاب القرار، فهم من دفعوا ثمنا فادحا، وهم من صمدوا ورابطوا وقدموا تضحيات جمة، وكانوا الشاهد والشهيد.
بعشرات آلاف الشبان الذين زحفوا إلى ميدان الحدث، بالرايات والحناجر الصارخة بهتافات النصر، بعربات الدفع الرباعي التي كانت قد حملت المقاتلين إلى المستوطنات يوم السابع من أكتوبر، بالفرح والزغاريد، بانتشار الآلاف من شرطة غزة إلى المناطق والأحياء، باستعراض المقاتلين لتنظيمهم وسلاحهم وعنفوانهم، ترسل غزة رسالة بسيطة واضحة ومختصرة: اليوم التالي للحرب لن يختلف كثيرا عن اليوم السابق للحرب.