النصر الاستراتيجي في حرب المستقبل
انتهت الحرب، ووصلنا أخيرا لاتفاق وقف إطلاق نار في حرب كان هدفها الرئيسي هو المستقبل.
صحيح أنه اتفاق هش ومعقد وكثير التفاصيل، لكنه يبقى الحل الأفضل لجميع الأطراف للخروج من دائرة الحرب العبثية التي أصبح كل شيء يحدث فيها بلا هدف، لا المهاجم يملك الثقة في تحقيق أهدافه، ولا المدافع يملك الثقة في استمراره وبقائه على أرضه التي كانت في طريقها للضياع وكأنها نكبة جديدة يعيشها الشرق الأوسط!
اقتربت حرب جمعت في طياتها كل أجيال وتكتيكات الحروب الحديثة على الانتهاء، شهدنا فيها الحروب النمطية وغير النمطية، حرب هجين جمعت على مسرح واحد ما بين الحرب المباشرة والحرب بالوكالة، شملت الإعلام والاقتصاد والإنترنت، لكن ما يميز لحظة النهاية كانت خسارة الطرفين معا، فقد أصبح استمرار الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس في مواقع القيادة أمر مشكوك فيه، وبدا وكأن كلا الطرفين يوقع على وثيقة استسلام أو شهادة وفاة تمنح للمنطقة فرصة رائعة للحياة بشكل أفضل!
لم ينجح أحد في ميدان المعركة، وحتى من نجحوا خارجه كانوا قليلين، أولهم وأبرزهم كانت مصر التي بدأت تحصد بهذا النصر المجاني ثمار شهور طويلة من المجهود الخرافي في كل شيء، في التفاوض وفي الدعم والإعاشة وتوفير ما يلزم لصمود وبقاء الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ قضيته العادلة.
تحملت مصر القدر الأكبر من تكاليف دعم الصمود التاريخي رغم الظروف الاقتصادية التي مرت بها، لكنها كالعادة اقتسمت ما تملك مع أشقائها لتُبقي على حظوظهم في نيل حقوقهم المشروعة كما هي!
راهن الرئيس عبدالفتاح السيسي بتاريخه السياسي والعسكري الحافل منذ اليوم الأول للأحداث، وأعلن التزامه بتحقيق أهداف واضحة ومحددة لم يتراجع عنها يوما رغم التدهور السريع للأحداث والضغوط الدولية والموافقة الضمنية من كبار العالم على سحق القطاع وإعطاء الضوء الأخضر لتنفيذ مخططات التصفية والتهجير.
لكن مصر وقيادتها السياسية استمروا في الدفاع عن فلسطين، متمسكين بأهدافهم المعلنة والواضحة بصبر استراتيجي مذهل يشبه كثيرا صبر الأنبياء!
في ساحات التفاوض، خاض الوفد المصري معارك ضارية، لا تقل خطورة ولا قوة عن المعارك العسكرية، وتحملوا بجلد وثبات العبء الأكبر من أجل حصول مصر على العلامة الكاملة في هذا الاختبار، وكانت لهم بشهادة الجميع اليد العليا في مراحل التفاوض كافة، وكانت الطرف الأول الذي أعلن عن وصول قطار المفاوضات لمحطة الوصول والنجاح!
الجميل في هذه الحرب أنّها جمعت خلاصة خبرات العرب في التعامل مع هذا النوع من الأزمات، أدار العرب هذه المعركة بمخزون كبير من دروس الماضي، استفادوا من كل الثغرات التي نفذ منها الكيان المحتل لمنطقتنا، فلم يرحل أحد عن أرضه ولم يقبل أحد بالتراجع مهما كانت الإغراءات والضغوط.
وأخص بالإشادة أهالي شمال غزة الذين رأوا الجحيم على الأرض أثناء الحرب، وذاقوا كل صنوف المعاناة وعاشوا في الشهور الأخيرة تحت الحصار الشديد جراء تطبيق خطة الجنرالات التي لم تسمح لهم سوى بالتنفس فقط للبقاء على قيد الحياة!
في هذه اللحظات نحتاج جميعا للاستجمام بعد شهور من العمل بلا توقف، ولنبدأ في الاحتفال بحسم معركتي الوجود والمستقبل والقضاء على مخططات التصفية والتهجير إلى الأبد، وأن ندرك أنّ ما تحقق اليوم نصر استراتيجي تاريخي لم يكن ليحدث دون امتلاكنا كل أسباب القوة الشاملة، الدول الكبرى هي من تحقق أهدافها دون حرب، ومصر اليوم أصبحت على رأس هذه الدول، وأضحت تمتلك من القوة ما يكفي للحفاظ على كل شيء!