الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: وتحج البيت

الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: وتحج البيت
جعل سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حجَّ البيت هو آخر الأركان في الذِّكر، حين قال في بيان ما الإسلام: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيمَ الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصومَ رمضان، وتحجَّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلا».وقد يتساءل متسائل: لماذا أخَّر صلى الله عليه وسلم ذِكْرَ الحج بحيث كان آخر أركان الإسلام، رغم أن المسلم المكلّف مطالب به؟!
نقول: نعم.. الحج واجب على المسلم مفروض عليه، لكن اختلف العلماء فيه؛ هل هو واجب على الفور؛ أي: يجب على المسلم أن يأتي به أولَ ما يستطيع، أم على التراخي؛ أي: يجوز له تأخيره؟ فقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجب على الفور بل يجوز تأخير أداؤه لكن بشرطين: أن يعزم المسلم على أدائه، وأن يغلب على ظنِّه بقاؤُه سالما إلى وقت الأداء.
فإذا كان الحج يجوز تأخير أداؤه -على رأي هؤلاء العلماء- كان هذا مناسبا لتأخير ذكره عن الأركان السابقة. ثم إن الحج عبادة مالية بدنية؛ أي: هو عبادة تحتاج إلى قدر من المال يكفي الحاج للذهاب والإياب، ويدع منه شيئا لأهله يكفيهم حتى يعود إليهم، وهو كذلك عبادة بدنية تحتاج إلى قدرة بدنية يستطيع الإنسان بها القيام بالمناسك المختلفة، أما سائر العبادات فهي إما مالية فقط كالزكاة أو بدنية فقط كالصلاة والصيام. والحج بهذا لا يتهيأ لكل أحد القيام به، وهذا أيضا داعٍ لتأخير ذكره.
ولما كان الحج عبادة بدنية مالية فالغالب أنه لن يقدر المسلم على الحج إلا مع قدرته على غيره من العبادات؛ فهو ذو قدرة بدنية تمكنه من الصلاة والصيام، وذو قدرة مالية تمكنه من الزكاة، وقد يكون لدى البعض ذا قدرة بدنية وليس لديه من المال ما يكفي للزكاة، والبعض ذا قدرة مالية وليس لديه قوة بدنية تؤهله للصيام؛ من هذا الوجه أُخّر ذكر الحج باعتبار أنّه يستلزم مجموع ما استلزمته العبادات من قبله، ولهذا قيّده سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستطاعة.
وقد أشار فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، رضى الله عنه، وأرضاه إلى ملمح طيب هنا، وهو أنّ الناس اعتادوا أن يلقبوا مَن يحج بـ(الحاجّ) ولم يقولوا مثل هذا لغيره، فلم يلقبوا من يصلي بالمصلى، ولا من يزكي بالمزكى، ولا من يصوم بالصائم، وهذا لأن لقب (الحاج) يشير إلى من قام بجميع فرائض الدين، فقد اكتمل أداؤه لفرائض دينه؛ لأن الغالب -كما سبقت الإشارة- أن القادر على الحج قد قام بالصلاة والزكاة والصيام، فصار لقب (الحاج) لقب تشريف يحمل في طياته الإشارة إلى استكمال أركان الدين.
وفي الحج معانٍ عميقة، فإذا كان المسلم في الصلاة ينقطع عمّن حوله مدة الصلاة وهي دقائق معدودة، وإذا كان في الصيام يبتعد عن شهواته منذ طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإنه في الصلاة يبتعد عن الأهل والولد والمال والوطن والشهوات فترة الإحرام بالحج. وإذا كان في الزكاة يستغني عن بعض ماله ويخرجه للفقراء فإنه في الحج ينخلع من أبهة الدنيا وزخرفها ويصير هو والفقير سواء في الملبس والهيئة الخالية عن الزينة والأبهة.
هذا، والحج يؤسس لأخلاق مجتمعية تنصلح بها أحوال المجتمع، فالحاج مأمور بالكف عن الرفث وهو الفحش في الكلام، وعن الفسوق وارتكاب المعاصي، وعن الجدال والمراء مع غيره، يقول الله تبارك وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
ويُغفر للحاج إذا اجتنب ذلك، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»؛ أي: يعود ذا صفحة بيضاء مطهرة من كل ذنب، فلا يعود إلى ما يعكر صفو صفحته على طهرها الله عز وجل من الذنوب، فيسير في تعاملاته وفق ما أمر به الله تعالى فى شرعه الشريف، وهذا هو أساس صلاح التعاملات. فالأركان المذكورة هي أساس استقامة المجتمع عبادةً ومعاملةً وعقيدةً وخُلُقا.