«الوطن» تقرأ مذكرات المستشارة الألمانية السابقة عن اللاجئين ونهاية اللحظات الإنسانية لأوروبا

كتب: عرض وترجمة: يسرا زهران

«الوطن» تقرأ مذكرات المستشارة الألمانية السابقة عن اللاجئين ونهاية اللحظات الإنسانية لأوروبا

«الوطن» تقرأ مذكرات المستشارة الألمانية السابقة عن اللاجئين ونهاية اللحظات الإنسانية لأوروبا

فتحت أوروبا ذراعيها لاستقبال «الإنسانية المعذبة»، ممثلة فى مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الذين فروا من الحرب الأهلية التى اندلعت منذ ما يزيد على عشر سنوات فى بلادهم. كانت صور الهاربين، خاصة الأطفال، الذين يحاولون عبور البحر المتوسط بأى وسيلة كانت، هرباً من موت يكاد يكون محتوماً على الأرض إلى موت محتمل فى عرض البحر، تشكل عبئاً على ضمير القارة العجوز. لكن اليوم، احتلت صور السوريين الذين يحتفلون بسقوط نظام «بشار الأسد» شاشات العالم، فسارعت أوروبا، خاصة تيارات اليمين المتطرف فيها، إلى المطالبة بترحيل اللاجئين الذين لم يعد لديهم سبب للبقاء على أراضيها، بعد أن زال الخطر.

النمسا كانت أول دولة أوروبية تعلن أنها سوف تقوم بإعادة السوريين الموجودين على أراضيها إلى بلادهم، بينما تدرس دول أوروبية أخرى اتخاذ قرارات مماثلة، على الرغم من الأصوات التى تعالت مطالبة بالانتظار قليلاً حتى ينقشع الغبار، وتتبين ملامح الوضع الجديد فى سوريا على الأرض، حتى لا يعود السوريون الذين فروا من بلادهم من جحيم إلى جحيم جديد. لكن صبر أوروبا على ما يبدو قد نفد.

فتح الأبواب الأوروبية أمام اللاجئين السوريين قد بدأ بـ«حُسن نية»، على حد وصف صحيفة «إل باييس» الإسبانية. استقبلت أوروبا ما يقرب من ١٫٥ مليون لاجئ، لكن هذا الأمر وضع عبئاً على المجتمعات الأوروبية، وتغيرت التركيبة السكانية فى مناطق منها على نحو واضح، الأمر الذى جعل المزاج الانتخابى الأوروبى يميل نحو الأحزاب اليمينية، التى يربح ناخبوها عادة باللعب على وتر النعرات القومية واتهام اللاجئين بإفساد نمط الحياة الأوروبى وزيادة معدلات الجريمة.

فى تلك اللحظة، عاد اسم المستشارة الألمانية السابقة «أنجيلا ميركل»، التى كانت أبرز من قرر فتح أبواب أوروبا لاستقبال اللاجئين، إلى الأذهان، وقفزت معها أسماء جديدة جعلت من محو تداعيات هذا القرار هدفاً لها.

كنت مسئولة سياسية ولست متطوعة فى منظمة غير حكومية.. وكان لا بد من إيجاد حلول تصب فى صالح الجميع

بعد ساعات قليلة من سقوط نظام «بشار الأسد» فى سوريا، خرجت «أليسا فايدل»، رئيسة حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليمينى المتطرف، لتكتب عبر حسابها على منصة «إكس»: «إن كل من يحتفل بـ«سوريا الحرة» فى شوارع ألمانيا اليوم، لم يعد لديه حتماً سبب للهرب.. عليه أن يعود فوراً إلى سوريا».

قالت ذلك تعليقاً على جموع اللاجئين السوريين الذين خرجوا إلى شوارع ألمانيا احتفالاً بسقوط النظام.

«أليسا فايدل» هى مرشحة حزبها «البديل من أجل ألمانيا» لشغل منصب المستشار فى الانتخابات المبكرة المقرر إجراؤها فى 23 فبراير المقبل. وهو نفس المنصب الذى كانت تشغله من قبل «أنجيلا ميركل»، المستشارة الألمانية السابقة، التى أطلقت مذكراتها فى مطلع الشهر الحالى تحت عنوان: «الحرية: مذكرات 1954- 2021».

كثير من الأوروبيين يحملون «ميركل» مسئولية فتح الحدود الألمانية أمام ما يقرب من مليون لاجئ من سوريا بعد اندلاع الحرب الأهلية فيها لأسباب إنسانية. هذا القرار الذى كان سبباً، كما يرى البعض، فى تزايد شعبية اليمين المتطرف فى ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية التى لا تريد مزيداً من المهاجرين على أراضيها.

هو قرار فرض واقعاً جديداً على الأرض، وتحديات اجتماعية وثقافية كثيرة على دول أوروبا، وجعل ملف المهاجرين مفتوحاً ومشتعلاً بين الأحزاب الأوروبية المختلفة فى كل مرة تقترب فيها الانتخابات. فمثلاً، على خطى «فايدل»، وعلى نحو أكثر اعتدالاً، اقترح أحد كبار البرلمانيين المحافظين فى ألمانيا، هو «ينس سبان»، الذى شغل من قبل منصب وزير الصحة وطالب يوماً ما فى البرلمان الألمانى بترحيل جميع اللاجئين بشكل غير قانونى من البلاد، أنه: «من الممكن للحكومة الألمانية أن تعرض على السوريين اللاجئين فى أراضيها والراغبين فى العودة لبلادهم نقلهم إليها، مع توفير مبلغ ألف يورو كبداية تساعدهم على بدء حياتهم من جديد». لكنه اعترف أيضاً فى مقابلة تليفزيونية أن الأمور أمامها فترة قبل أن تستقر فى سوريا.

وهو الاقتراح الذى اعتبره السوريون اللاجئون فى ألمانيا مهيناً وغير واقعى.

وسط هذه الأجواء، قررت ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية تعليق القرارات الخاصة بمنح الموافقة على طلبات اللجوء بالنسبة للسوريين (التى يبلغ عددها فى ألمانيا وحدها حالياً ٤٧ ألف طلب) حتى تصبح الصورة القادمة من «دمشق» وما حولها أكثر وضوحاً، بعد أن تزايدت أعداد الحاصلين على الجنسية الألمانية من ٦٧٠٠ عام ٢٠٢٠، إلى ٧٥ ألفاً فى العام الماضى.

السوريون الذين فروا إلى ألمانيا لم يعرفوا جميعاً الراحة فيها. بعضهم نجح فى الاندماج فى المجتمع الألمانى وإرساء دعائم حياته فيه، بينما ما زال البعض الآخر عالقاً بين عالمين وثقافتين، يحيا فى عالم من القلق ويتحول أحياناً إلى عامل توتر. وهو المعنى الذى عبر عنه «يواخيم هيرمان»، وزير داخلية ولاية «بافاريا» الألمانية المحافظ، الذى عرف عن حزبه مواقفه الصارمة ضد الهجرة، قائلاً: «إن هناك العديد من اللاجئين السوريين الذين اندمجوا بشكل رائع فى بلادنا، وحصلوا على عمل وعندنا حاجة ملحة إليهم. لا أحد يفكر فى إجبار مثل هؤلاء على الرحيل عن ألمانيا. هؤلاء الذين اندمجوا معنا جيداً بالفعل ما زالوا موضع ترحيب منا».

أما الفريق الآخر، فقال عنه «هيرمان»: «من الواضح أيضاً أن هناك آخرين غيرهم ظلوا بيننا عقداً كاملاً ولم يجدوا وظيفة ولا اندمجوا مع مجتمعنا. إذن فمن الصواب أن نعاون هؤلاء على العودة لبلادهم».

ومن الواضح طبعاً أنه لو نجحت «أليسا فايدل» فى تولى دفة الحكم فى ألمانيا، فإن اختياراتها كمستشارة فيما يتعلق بملف اللاجئين ستختلف اختلافاً جذرياً عما فعلته «ميركل» فى أيام حكمها.

تحظى «أنجيلا ميركل» باحترام كبير فى المحافل الدولية بسبب موقفها من الهجرة واللاجئين فى ألمانيا. هى محطة مهمة شغلت جزءاً معتبراً من مذكراتها، وتتحمل المستشارة الألمانية السابقة تداعيات قراراتها فيها، الإيجابية منها والسلبية، بشجاعة تستحق الإعجاب. هى تدرك جيداً أن كثيرين تعمدوا فهم كلماتها فى ملف المهاجرين بشكل خطأ، وبعضهم سعى إلى تحريف مواقفها وتحميلها ما لا تحتمل. هى تدرك أيضاً أن قرارها بتغيير سياسات ألمانيا فيما يتعلق باستقبال المهاجرين على أراضيها قد لاقى معارضة شرسة من قلب بلادها، لكنها، حتى وبعد مرور ما يقرب من عشرة أعوام على قرارها، لا تظهر ندماً ولا رغبة فى إعادة الزمن إلى الوراء لإغلاق الأبواب التى فُتحت أمام لاجئين كُتبت لهم فى ألمانيا فرص جديدة للحياة.

من هؤلاء، كان الشاب السورى «أنس معضمانى»، هو صاحب صورة «سيلفى» فاقت شهرتها الآفاق، التقطها عندما وصل إلى ألمانيا وهو فى الثامنة عشرة من عمره هرباً من الجحيم الذى اشتعل على الأراضى السورية منذ عشرة أعوام. هذه الصورة جمعته مع المستشارة الألمانية السابقة التى ظهرت فيها وهى تبتسم بتلقائية وبساطة نادرتين. وتناقلتها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى فى ذلك الوقت لتصبح «أيقونة» على سياسة «الأذرع المفتوحة» التى بدا أن ألمانيا تنتهجها فى استقبال اللاجئين، فى واحدة من «اللحظات» الخاطفة التى تظهر فيها أوروبا بالفعل وجهها الإنسانى للعالم، وتتحمل قدرها من المسئولية إزاء شعوب لا تحظى بمثل ما تحظى به شعوبها من أمن واستقرار.

«مرحباً بكم.. والآن وداعاً».. هكذا عبَّر أحد الكتاب فى صحيفة «دير شبيجل» الألمانية عن رسالة أوروبا إلى اللاجئين السوريين 

فى الأيام التالية لسقوط نظام «بشار الأسد»، بحثت وكالة «أسوشيتدبرس» الإخبارية الأمريكية عن «أنس معضمانى». أرادت أن تعرف ما مصير اللاجئ السورى الشاب الذى اتخذت «ميركل» قرارها بأن يكون له ولأمثاله من اللاجئين فرصة للحياة فى ألمانيا بعيداً عن دوى المدافع وأنهار الدم المراقة فى سوريا. وجدت «أسوشيتدبرس» أن الشاب السورى الذى يبلغ اليوم 28 عاماً قد حصل بالفعل على الجنسية الألمانية، وأنهى دراسته الجامعية ويعمل مصوراً حراً مع «دويتش فيلا» الألمانية. صار مندمجاً تماماً فى المجتمع الألمانى ومعه خطيبته الأوكرانية التى وصلت أيضاً إلى ألمانيا قبيل الغزو الروسى لبلادها. وليس لدى الشاب السورى-الألمانى أى نية للعودة إلى بلاده بعد أن استقر فى «برلين».

وقال «أنس معضمانى» للوكالة الأمريكية واصفاً حاله: «لقد تدبرت الأمر».

كان يشير بقوله إلى الجملة المعروفة التى قالتها «ميركل» (شريكته فى الصورة السيلفى التى كانت سبباً فى شهرته)، والتى تلخص موقفها عندما سئلت عن الكيفية التى سوف تدير بها ملف اللاجئين، وهل تمتلك ألمانيا الموارد اللازمة لاستقبال هذا العدد من الأشخاص من خلفيات ثقافية متنوعة وظروف إنسانية قد تمثل عبئاً على البلاد؟.

ساعتها قالت «ميركل»: «سوف نتدبر الأمر، يمكننا القيام بذلك». وهى الجملة التى صارت عنواناً لسياساتها، ولفصل مهم من فصول مذكراتها.

تحكى «ميركل» فى مذكراتها قصة صورتها مع «أنس معضمانى» من زاوية أخرى، فتقول: «فى 10 سبتمبر عام 2015، كنت فى زيارة لأحد مقرات المكتب الفيدرالى للهجرة واللاجئين. وبعد إلقائى لبيان صحفى قصير، توجهت إلى الأشخاص الموجودين بالقرب منى (اللاجئين) كى لا أغادر من دون تحيتهم. اقترب منى أحدهم، وتبين فيما بعد أنه لاجئ من سوريا (هو «أنس معضمانى») حاملاً تليفونه المحمول ويسألنى: «سيلفى؟». فى تلك اللحظة، لم تكن لدى أدنى فكرة عن الضجة التى يمكن لتلك الصورة أن تثيرها، لكننى قلت لنفسى ببساطة: «ولمَ لا؟». وجدت هذه الصورة «السيلفى» طريقها حول العالم مع غيرها من الصور التى التقطها المصورون الصحفيون الموجودون فى ذلك اليوم لتغطية زيارتى».

     الشاب السورى «أنس معضمانى»خلال التقاطه «سيلفى» مع «ميركل» 

تدرك «ميركل» أن البعض فى أوروبا استخدم هذه الصورة «السيلفى» لتوجيه أسهم الانتقاد نحوها، قائلين إنها كانت تفتح بابتسامتها إلى جوار الشاب السورى الباب على مصراعيه للمهاجرين لكى يندفعوا إلى ألمانيا بغير حساب. وهو الانتقاد الذى واجهته فى مذكراتها قائلة: «حتى هذه اللحظة لا يمكننى أن أفهم كيف يمكن أن يفترض أحدهم أن وجهاً ودوداً فى صورة ما يمكن له أن يشجع الناس على مغادرة أوطانهم فى جماعات، ولا كيف يمكن، فى المقابل، أن تمنعهم أكثر الوجوه تجهماً من ذلك. لا يمكن لألمانيا ولا لأوروبا أن تظهرا فى صورة منفرة أو طاردة، أو أن تكف عن كونها أماكن يتطلع إليها الآخرون بأمل وشوق».

لو كان علينا أن نبدأ الآن في الاعتذار عن إظهار «وجه ودود» في الأزمات.. إذن فهذه لم تعد بلادي 

وتواصل: «كنت وما زلت مقتنعة تماماً أن أحداً لا يتخذ قراره بترك وطنه ببساطة، ولا حتى هؤلاء الذين يتخذون هذا القرار فقط بناءً على عدم وجود فرص اقتصادية واجتماعية أمامهم، أو من لا يملكون أية فرصة للاعتراف بهم كطالبى لجوء إلى ألمانيا».

تلخص المستشارة الألمانية السابقة حالة الجدل التى أثارتها سياستها إزاء المهاجرين بالحوار الذى دار بينها وبين أحد الصحفيين الألمان بعد انتشار صورة السيلفى مع «أنس» بخمسة أيام، قائلة: «سألنى أحد الصحفيين: سيادة المستشارة، كثيرون من بين صفوف حزبك نفسه وفى وسائل الإعلام يتهمونك بإرسال العديد من الإشارات السياسية التى تلمح بوجود استعداد بالغ لاستقبال اللاجئين، ما أدى بالفعل إلى تزايد تدفق اللاجئين الذين تشجعوا للمجىء إلى ألمانيا. ما هو قولك رداً على هذا الاتهام؟».

قالت «ميركل»: «شعرت أنه من السهل الإجابة عن هذا السؤال، وتقريباً انسابت الكلمات منى فقلت: أود فقط أن أذكركم أن الصور التى انتشرت بالفعل حول العالم لم تكن صورى أنا، لكنها كانت صور آلاف المواطنين الألمان الذين وقفوا فى محطات القطار فى «ميونيخ» وغيرها من المدن الألمانية يستقبلون اللاجئين القادمين إليهم، دون أن يترددوا فى تقديم المساعدة. ورداً على ذلك صار العالم يقول: هذا أمر نابع من قلوب الناس. ولا بد لى من أن أقول بكل أمانة هنا: لو كان علينا أن نبدأ الآن فى الاعتذار عن إظهار وجه ودود فى مواقف الأزمات، إذن فهذه لم تعد بلادى».

وتواصل «ميركل»: «شعرت أن هذا الصحفى قد مس وتراً حساساً فى نفسى. لم يعجبنى واقع أنه يتحدث عن «تزايد تدفق اللاجئين». بالنسبة إلىّ، فإننا لم نكن نتعامل مع «تدفق» ولكن مع بشر، بغض النظر عما إذا كانت أمامهم فرصة للبقاء فى ألمانيا. لقد دخلت إلى عالم السياسة عام 1991 لأن الناس هم من يثيرون اهتمامى. الناس، وليس الجموع المجهولة التى لا اسم لها.

كما أن بلادى كانت وما زالت بلداً ينظر إلى الأفراد بعين الاعتبار، حتى لو لم يكن من الممكن تلبية رغباتهم. هذا هو ما يجعل بلادنا قوية: أنه لا ينبغى علينا أبداً أن ننسى ضرورة القيام بالعمل الصائب مع الأفراد، على الرغم من، بل وخاصة فى مواقف الطوارئ والأزمات».

«ميركل» لم تظل واقفة كثيراً عند هذه اللحظات التى تتحدث فيها بقلبها أكثر من عقلها، وعادت لترتدى عباءة سيدة السياسة التى تضع حلولاً واقعية على الأرض وتنفذ خطوات مرسومة ومحددة للتعامل مع الأزمات.

فى ذلك العام 2015، كانت أزمة اللاجئين قد وصلت إلى ذروتها فى أوروبا. ازدهرت تجارة تهريب البشر والهجرة غير الشرعية سواء من ناحية البحر المتوسط أو عبر دول البلقان إلى أوروبا.

صارت صور وأخبار المهاجرين الذين يقعون ضحية تجار الهجرة غير الشرعية، ويلقون مصرعهم بالمئات فى ظروف مأساوية فى عرض البحر، تثير قلق قادة أوروبا، ومنهم «ميركل»، التى تقول وهى تتذكر إحساسها بالمسئولية فى ذلك الوقت: «لم أكن أحد ممثلى منظمة غير حكومية، ولم أكن أحد المتطوعين لمساعدة اللاجئين. لقد كنت مسئولة سياسية، كنت مستشارة جمهورية ألمانيا الاتحادية.

لم يكن الناس ينتظرون منى أن أتخذ قراراً فى ظل ظروف خاصة أو حالة طوارئ إنسانية لمرة واحدة فحسب. ما كان منتظراً منى ومن الحكومة الاتحادية ككل هو إيجاد حلول تمتد وراء ذلك، لمواجهة واحد من أكبر التحديات فى تاريخ الاتحاد الأوروبى. كان من الضرورى علينا أن نجد حلولاً تصب فى صالح الجميع، سواء الأوروبيون أو اللاجئون الذين لا ينبغى أن يجدوا أنفسهم مضطرين لأن يضعوا حياتهم بين أيدى الجماعات المشبوهة لتهريب البشر».

كان هذا القرار يعنى ضرورة مكافحة أسباب الهجرة غير الشرعية وتهريب البشر قبل حتى أن تصل إلى الحدود الأوروبية. وبالنسبة لـ«ميركل»، كان هذا يعنى ضرورة التعاون والتنسيق مع دولة محورية فى هذا الملف.

هذه الدولة كانت تركيا.

تقول «ميركل» فى مذكراتها: «منذ صيف 2015، ركزت على تحسين التعاون بين الاتحاد الأوروبى وتركيا فيما يتعلق بسياسات اللاجئين. منذ بداية الحرب الأهلية فى سوريا عام 2011 ، استقبلت تركيا ما يقرب من مليونى لاجئ سورى عبر الحدود التركية-السورية، بالإضافة إلى كثيرين غيرهم فى قلب البلاد. تحملت تركيا بالتالى عبئاً كبيراً لاحظته أوروبا بالكاد، هذا إن اعترفت بوجوده. كان لا بد لذلك أن يتغير من خلال قيام الاتحاد الأوروبى بتقديم الدعم المالى للمشروعات المحلية للاجئين، والمساعدة فى تحسين ظروف الرعاية الصحية بالنسبة لهم، وإقناع تركيا بمنح تصاريح عمل للاجئين على أراضيها، وإتاحة فرص تعليم لهم بما يفتح آفاقاً جديدة فى البلاد بالنسبة إليهم. بهذا كنا نركز على أهم جانب من سياساتنا المتعلقة بملف اللاجئين: مكافحة أسباب الهجرة نحو الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبى. كان ذلك الأمر يصب فى مصلحة الجميع بمن فيهم اللاجئون أنفسهم، حتى لا يجد هؤلاء أنفسهم غارقين فى البحر بعد أن يدفعوا مبالغ طائلة لمهربى البشر المشبوهين».

وهكذا بدأت «ميركل» رحلتها بدعم من قيادات الاتحاد الأوروبى إلى تركيا لوضع خطة عمل مشتركة فيما يتعلق باللاجئين.

وتتابع «ميركل» فى مذكراتها: «كل من تيار اليمين واليسار فى ألمانيا رأى أن علىّ بذل كل ما فى وسعى لتنظيم وإدارة تحركات اللاجئين عبر بحر «إيجه» واليونان وطريق دول البلقان لتقليل أعدادهم. إن نظرة واحدة على الخريطة كافية لكى يرى المرء الحقائق فى بحر «إيجه» ويدرك أنه لا يمكن تنظيم وإدارة المسألة بغير التنسيق مع تركيا، وأنه لا بد من أن يتم ذلك الأمر بشكل عاجل. أى كلام آخر يعد أوهاماً، وأنا لست من هواة العيش فى الأوهام».

وتواصل المستشارة الألمانية السابقة توضيحها لحقيقة الصورة المحيطة بملف اللاجئين فى أوروبا فتقول: «مهما كانت المكافحة المتواصلة لمهربى البشر عبر البحر، ومهما شددنا من الرقابة وكثفنا نقاط التفتيش على حدودنا الداخلية، ومهما بلغ طول وارتفاع الأسوار، لا شىء من هذا كان يمكن أن ينجح فعلياً، كما حاول البعض إيهامنا، بتقليل أعداد الأشخاص الذين يندفعون فى اتجاه الاتحاد الأوروبى عبر تركيا على نحو دائم بغير اتفاق مع أنقرة. وكل الجهود التى طالب بها رؤساء دول مثل سلوفينيا وكرواتيا وصربيا ومقدونيا بإغلاق الحدود أمام اللاجئين والمهاجرين عبر طريق البلقان، كلها تعبر عن قصر نظر فى التفكير وليست وسيلة لحل المشكلة».

وتتابع «ميركل»: «إن تركيا كانت هى دولة المعبر الحقيقية بالنسبة للاجئين القادمين عبر طريق البلقان، وكانت تلعب دوراً محورياً بالنسبة لأوروبا إذا أرادت التعامل فعلاً مع ذلك التحدى».

واصلت «ميركل» مفاوضات الاتفاق بين الاتحاد الأوروبى وتركيا بعدها مع وزير الخارجية التركى «أحمد داود أوغلو»، حتى عقد قمة الاتحاد الأوروبى مع تركيا فى 29 نوفمبر 2015.

تقول «ميركل»: «فى هذه القمة، اتفقنا على أن يقدم الاتحاد الأوروبى ٣ مليارات يورو من المساعدات إلى تركيا من أجل مشروعات مثل بناء مدارس لأطفال اللاجئين، والتزمت تركيا من جانبها بمنح تصاريح عمل للسوريين، وزيادة السيطرة على الحدود. وبدأت تلك الإجراءات تؤتى ثمارها، فبعد أن وصل عدد اللاجئين القادمين إلى ألمانيا إلى سبعة آلاف لاجئ يومياً، هبط ذلك العدد إلى ثلاثة آلاف لاجئ فى يناير 2016 . وبعد اجتماع آخر بين الاتحاد الأوروبى وتركيا فى مارس 2016، اقترح «أوغلو» ما صار يعرف فيما بعد باسم آلية «واحد مقابل واحد«، والتى تعنى أنه: أى مهاجر غير شرعى يصل إلى اليونان تتم إعادته إلى تركيا، وفى مقابل كل مهاجر سورى تتم إعادته إلى تركيا من اليونان، يتم إرسال مهاجر سورى آخر مباشرة من تركيا إلى الاتحاد الأوروبى».

وتواصل «ميركل»: «كان هذا اقتراحاً جريئاً ورائداً، لا يهدف فقط للحد من الهجرة غير الشرعية ولكنه يدعم أيضاً الهجرة القانونية. وحظى الاقتراح بدعمى على الفور. وبمرور الوقت، انخفض عدد اللاجئين القادمين إلى شمال أوروبا وإلى ألمانيا فى 2018 عبر طريق البلقان بنسبة 95٪ عما كان عليه فى أكتوبر 2015».

بقى أن ننتظر لنرى ما ستكون عليه أعداد اللاجئين السوريين إلى أوروبا اليوم بعد سقوط نظام «الأسد»: هل ستتزايد؟ هل ستنفجر أزمات الحدود التركية مع أوروبا من جديد؟. هل سينعكس اتجاه الهجرة من ألمانيا إلى سوريا؟ أم أن ضحايا الهجرة غير الشرعية سيجدون أنفسهم مرة أخرى غارقين بلا وطن ولا هوية ولا رحمة ولا غوث فى قاع البحر؟.

هذه لم تعد مشكلة «أنجيلا ميركل» على كل حال.


مواضيع متعلقة