بائع أسماك: "الناس كانت بتقطع نفسها عشان تشترى الكيلو بخمسة جنيه"

بائع أسماك: "الناس كانت بتقطع نفسها عشان تشترى الكيلو بخمسة جنيه"
مستطيلات خشبية متوسطة الحجم ترتص على براميل بلاستيكية زرقاء اللون، تحيط بغرفة خشبية صغيرة مخصصة لحارس القفص، يرتكن إليها قارب خشبى صغير الحجم يحوى شباك صيد.. «بقالى سنتين ونص مستنى قطفة السمك اللى شغال عليها أنا وعيالى، باحسب الأيام بالساعة عشان أبيع السمك وأسد الديون اللى عليا وربنا يرزقنا بحسنة ناكل ونشرب منها أنا وعيالى، وبعد ما السمك مات وطفا على وش الميه، مفيش قدامى أنا وعيالى غير الجوع والسجن»، يقول الحاج رزق، أحد الصيادين بمدينة رشيد، ويضيف أنه استدان مبلغ 17 ألف جنيه من أحد تجار الأسماك فى المدينة لشراء زريعة سمك وتربيتها فى أقفاص، بالإضافة لاستدانته مبلغ 6 آلاف جنيه أخرى من أصحاب مصانع الأعلاف حتى يتمكن من الإنفاق على أكل السمك طوال مدة تربيته، الأمر الذى قد يؤدى به للسجن خلال الأيام المقبلة فى حالة تقديم الدائنين للشيكات التى تحمل توقيعه.
ثلاثة أبناء للرجل الخمسينى كانوا يعملون على مراكب الصيد التى تسافر إلى ليبيا قبل منع السلطات المصرية لتلك الرحلات بسبب تكرار حوادث اختطافهم من قبَل جماعات مسلحة، تناوبوا أعمال الحراسة والرعاية على قفصى أسماك طوال العامين الماضيين، سوف يقبلون على ارتكاب الجرائم رغبة فى السجن الذى بات أملهم الوحيد لضمان «لقمتهم» بداخله، على حد تعبير والدهم، حيث يقول: «المياه المسممة قتلت الأسماك الموجودة داخل الأقفاص وخارجها، وهو ما يعنى أننا لن نتمكن من الصيد بالقوارب فى البحر لانعدام وجود أسماك بداخله، ده غير إننا ما لحقناش ننقذ ولا سمكة وما عرفناش نعمل زى بعض الصيادين اللى باعوا كميات كبيرة من سمكهم وهو لسه فى مرحلة الخنقة ولموا أى فلوس تنفعهم، قبل ما الأهالى ييجوا يلموها من على وش الميه وياخدوها».
لم يختلف الوضع عند بلال محمد، صياد، عن سابقه، حيث اقترض مبلغاً مالياً من تاجر أسماك آخر برشيد لشراء زريعة سمك وتربيتها فى الأقفاص، بديلاً عن التى ماتت فى العام الماضى بعد رعايته لها لمدة عام، حتى يتمكن من سداد ديونه التى تراكمت عليه نتيجة تعرض أسماكه للنفوق عامين متتاليين فى نفس الموعد، يقول: «بقالى سنتين السمك بتاعى بيموت قبل قطفه بشهرين تلاتة، كل مرة ببقى واخد فلوس من تاجر وشغال بالمقاومة، ده غير إنى بصطاد طول النهار فى النيل علشان أجيب تمن أكل اللى بربيه فى القفص ومصاريف عيالى»، وفى المرة الثالثة التى حدثت منذ أيام تمكن من إنقاذ كمية صغيرة من السمك قبل نفوقه الكامل، ولكنه فوجئ بوجود كميات كبيرة من «الميتة» على الموازين فى حلقة السمك يُقبل على شرائها الأهالى، الأمر الذى تسبب فى بيعه لأسماكه بسعر قليل لا يساوى تكلفة رعايته لأقفاصه لمدة شهر واحد، على حد تعبيره. يمكث الشاب الثلاثينى طوال يومه داخل غرفة صغيرة أنشأها من الخشب بجوار قفص السمك الذى يمتلكه وسط مياه النيل، هرباً من ملاحقة الأمن له، لصدور عدة أحكام ضده فى قضايا شيكات بدون رصيد، وقّعها لتجار أسماك من مدينة رشيد ولم يتمكن من سدادها بسبب نفوق أسماكه قبل بيعها، لذا فهو يرى أنه تلك المرة لن يتمكن من الوقوف على قدمه مرة أخرى، وليس لديه استعداد للبدء من جديد بسبب تكاثر ديونه. أسر كاملة تعيش على ريع 5 أقفاص سمكية، يشرف عليها الجد حسين الصيفى، الذى ورث مهنة الصيد عن والده، أجبر أبناءه الستة وأحفاده على عدم السفر للعمل فى المراكب المتجهة إلى ليبيا خوفاً عليهم وعلى أبنائهم الصغار، منذ قرار الحكومة بوقف تلك الرحلات، وعلى الرغم من ذلك تعرضت أسماكه للنفوق الكامل للسنة الثالثة على التوالى، مما تسبب فى زيادة ديون العائلة، وتهديد كافة أبنائها بالسجن نتيجة توقيعهم شيكات على بياض، ولم يتمكنوا من سدادها.
«عيالى مش طايقين يبصوا فى وشى، وسابوا البيت والنهر ومشيوا، وكل ما أكلم عيل منهم يقول لى انت السبب فى ربطتنا جنب شوية السمك طول السنة، وفى الآخر جات شوية الميه موتتهم من غير ما ناخد من وراهم ولا أبيض ولا أسود»، يقول الرجل السبعينى إن الصيادين لم يبيعوا أسماكهم النافقة، لأن «مفيش حد هيبيع جثة ابنه، الناس من كتر الحزن سابت المكان ومشيت ومارجعتش غير بعد يوم ولا اتنين»، ولكن غالبية أبناء المنطقة من أصحاب الدخول المحدودة والفقراء، بمجرد وصول نبأ «الخنقة» سارعوا بركوب القوارب واصطياد الأسماك قبل موتها بلحظات بسبب قناعتهم بعدم وجود ضرر من أكل الأسماك الميتة، بالإضافة لقيام بعض تجار الأسماك من معدومى الضمير بجمع أكبر كمية من تلك الأسماك ونقلها على الفور إلى محلاتهم فى مدينة رشيد وتجهيزها للتصدير، بعد أن جمعوا كل الكميات المعروضة فى حلقات السمك ونقلوها إلى محلاتهم أيضاً.