كوب ماء بالسكر

شريف سعيـد

شريف سعيـد

كاتب صحفي

من فرط الشد العصبي كنت أضع إلى جواري كوب ماء بالسكر أثناء مباريات الأهلي والزمالك, ثم مرت السنوات وجاء اليوم التاسع للثورة, وحين كانت الجمال تدهس المصريين في التحرير, تصدر ميدان مصطفى محمود صفوة أهل الكرة!! لم تكن الأزمة في تأييدهم لمبارك فهذا طبيعي وفقا للأرقام التي كدسوها في عهده, الأزمة أنهم لم يضعوا باعتبارهم دم إنسان كان يذهب للاستاد وبجيبه عشر جنيهات, يدفع نصفها للتذكرة ونصفها الأخر للمواصلات, ثم يعود بجيوب خاوية وصوت مبحوح من فرط الهتاف بأسمائهم!! كان قراري "الانفعالي الحاد" بالابتعاد عن مشاهدتهم, ثم مرت الأيام وهدأت الأعصاب المستنفرة, عادت الكرة ولم أعد لكوب الماء بالسكر, عدت فقط خطوات للوراء في محاولة لتأمل تفاصيل صورة كان من الصعب تأملها وأنا بداخلها. انعدام الحلم الشعبي .. قبل يوليو انشغل المصريون بالاستقلال التام أو الموت الزؤام, جاء ناصر عقب 52 بأحلامه القومية, من بعده قاد السادات حرب تحرير الأرض, ثم دخلنا جميعا النفق لثلاثين سنة, انسخطت كل أحلامنا الكبرى إلى مجرد حلم الوصول لنهائيات كأس العالم!! في الماضي كنا نعادي بريطانيا ومن بعدها إسرائيل, ثم دارت بنا الأيام وصرنا نعادي الجزائر تحت قيادة علاء وجمال!! حينها كنا نسخر من مقالات الصحافة الجزائرية التي كانت تصارحنا بأن هذه المعركة المفتعلة هي فقط من أجل تلميع نجلي مبارك كبطلين شعبيين وتمرير مخطط التوريث عبر جماهير الكرة!! كان هذا يُحاك بدقة في القصر وينفذ عبر أراجوزات إعلام المساء!! التستر على السياسة بالرياضة .. وذلك على سبيل المخدر الموضعي لمشاعر الناس ونكساتهم, حين أغمضُ عيني وأعود إلى الوراء لا أجد عارا أفدح من الانشغال بمباراة للمنتخب بكأس الأمم عام 2006 في حين كانت أسماك القرش تنهش أكثر من ألف جسد مصري في عرض البحر ليلا!! وفي وسط الزفة الكروية تم "تهريب" ممدوح إسماعيل مالك العبارة "السلام 98" إلى بريطانيا بحجة العلاج!! ولم يبق للذكرى الخالدة من تلك الليلة سوى شريط بائس للمباراة, وأخر مرير لصندوق العبارة الأسود وفي الدقيقة الأخيرة منه صياح مساعد القبطان: المركب بتغرق يا قبطان!! لمزيد من الألم أدخل على موقع "يوتيوب" وابحث عن اللحظات الأخيرة لغرق العبارة السلام!! الهزائم الشخصية والجماعية .. "جزء" من التعصب الكروي الحاد يعود إلى حالات الهزيمة, حينما يكون "هو" رقما في معدلات البطالة أو ضحية لصعوبات المعيشة, حينما تتعثر "هي" في حبها أو تصبح رقما مضافا لعدد المطلقات, حينما يشعر "الكل" بالهزيمة بعد ثورتين وأن لا شيء قد تغير, حينها يصبح من الطبيعي البحث عن مخرج للهروب من الواقع, تصبح الـ 90 دقيقة تنفيسا عن شحنات الغضب المكتوم, نتعارك قبلها وبعدها مع بعضنا, نعاقب أنفسنا بدلا من معاقبة المسئول عن صناعة هذا الواقع الذي نهرب منه, ننساق لاشعوريا إلى معارك افتراضية من أجل الكرة, لمَ لا؟! وفريقك هو الذي سيحقق لك نصرا زائفا بالوكالة, الكرة هي الساحرة التي قد تجعلك منتصرا رغم كونك مهزوما على كل الأصعدة هزيمة ساحقة!! في النهاية, كرة القدم رياضة رائعة للتسلي وليس للتعاطي كمخدر, مشجعو الأهلي والزمالك حتما ستنتابهم نشوة النصر إذا فازوا بالدرع أو الكأس, لكن ما يهمني الأن هو أن يشعروا بهذا النصر دون مجزرة جديدة في بورسعيد أو مذبحة أخرى على عتبات ملعب الدفاع, ما صرت معنيا به الأن أكثر هو أن يعود المشجع المصري حيا من المدرجات ولا يجد أبيه الكادح قد مات من التعذيب في قسم المطرية, أو أن أمه البسيطة قد غرقت في مركب الوراق, أو أن أخته قد تحرشوا بها في الشارع, وإلى أن يتحقق هذا لن أعود إلى كوب الماء بالسكر.