«عائلة أبو نصر».. «حائط الصد» ضد همجية وتنكيل الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين (تحقيق)

«عائلة أبو نصر».. «حائط الصد» ضد همجية وتنكيل الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين (تحقيق)
صباح 31 أكتوبر عام 1948 وفى قرية دير سنيد، الواقعة على بعد 12 كم شمال شرق قطاع غزة، استيقظت فاطمة أبو نصر، الفتاة العشرينية، على صوت الرصاص الذى اخترق سكون الليل، لتجد نفسها مضطرة للهروب، أمسكت بيد زوجها الضرير وجمعت أطفالها على عجل، تاركة كل شيء خلفها، لم تحمل معها سوى مفاتيح بيتها التي دستها داخل ملابسها، مُحدّثة نفسها بأنها مجرد أيام وستعود إليه، لكن الأيام تحوّلت إلى عقود.
سلكت العائلة طريق الهجرة نحو بيت لاهيا ومخيم جباليا شمال القطاع، حيث بدأ فصل جديد من المعاناة، لأن «فاطمة» لم تحمل أمتعة، لكنها حملت معها ما هو أثقل وهو حكاية عائلتها والتهجير الذى ألمّ بها والمعاناة التي باتت تلاحقها لسنوات حتى استيقظوا على مأساة جديدة أعادت إليهم ذكرى التهجير المؤلمة.
عائلات فلسطينية عديدة ارتكبت بحقها مجازر فى هذا اليوم، ما بين القتل والتهجير كان من بينهم عائلة «أبو النصر» العائلة التي شهدت على وحشية المحتل منذ أكثر من 80 عاماً حتى اليوم من خلال مجازر وصلت إلى حد الإبادة ضد العائلة وكان آخرها مجزرة بيت لاهيا فى التاسع والعشرين من أكتوبر 2024، لتمثل عائلة أبو النصر صورة مُصغرة لما يحدث لفلسطين الكبرى.
«الوطن» ترصد مسيرتها الثائرة فى سرد وتوثيق تاريخى لرحلة الصمود والتحدى فى فلسطين
«الوطن» تقصت عن تاريخ العائلة ووثقت قصص المقاومة والنضال ونقلت حكايات من على لسان أبنائها لأجيال مختلفة لتنكشف الإجابة عن السؤال الصعب وهو «لماذا تحرص إسرائيل على استهداف عائلة أبو نصر؟».
على أطراف قرية دير سنيد الواقعة بمحاذاة قطاع غزة، فى عام النكبة كانت العصابات الصهيونية تطوق الأهالى وتفرض حصارها الصارم عليهم، ومنعت دخول أى شىء من مقومات الحياة، لا ماء، لا طعام، لا دواء، فقط طريق ترابى واحد يصطف المسلحون الإسرائيليون على جانبيه بينما تتجه فوهات بنادقهم تجاه رؤوس المدنيين الذين لم يمهلهم القدر لحمل أى متعلقات من بيوتهم قبل أن يرتكب الاحتلال مجزرة بحق عدد من العائلات وأبرزها عائلة أبونصر، لتكون هذه الواقعة هى بداية لثأر طويل، أوجع خلالها مقاومو «أبونصر» الكيان وقضّ مضاجعهم وأرّق نومهم، ليرد الأخير بملاحقات أمنية وأسر ومجازر مروعة، كان آخرها ما شهدته مدينة بيت لاهيا فى واحدة من أبشع المجازر ليرتقى أكبر عدد من الشهداء فى ضربة واحدة منذ بدء العدوان.
«كنا نملك بيارات مزروعة بالليمون والبرتقال والحمضيات تمتد على 60 دونماً، أى ما يعادل 60 ألف متر مربع»، بهذه الكلمات سرد الستينى نصر أبوالنصر بعضاً من تاريخ عائلته فى عصر النكبة، فرغم فقدان والده حاسة البصر، كان يعمل بجد فى أرضه، لا يشكو ولا يتذمر، صحيح أن الوضع المادى كان متواضعاً، لكن أسرته كانت تعيش بالأمل، يؤمنون أن غداً سيكون أفضل ولم تكن الحياة تحتاج إلى الكثير؛ مجرد أرض خضراء، وأب يجتهد رغم عجزه، وأيام هادئة تتوالى بلا ضجيج، لكن هذه الصورة سرعان ما تبددت بفعل المحتل.
كان تهجير الأجداد وارتكاب المجازر بحقهم بمثابة شرارة المقاومة التى اندلعت فى العائلة، وبعد ثلاثة عقود على أحداث النكبة، شهد قادة الاحتلال منذ مطلع السبعينات ووصولاً للثمانينات واحدة من أعنف فصول المقاومة الفلسطينية المسلحة على يد محمد أبونصر وأتباعه، الذى بات يعرف بـ«الوحش» لجرأته وبسالته وفدائيته، حيث يعود الفضل إلى «محمد» فى وضع بذرة المقاومة فى العائلة، قبل أن يسير على دربه المئات من أقرانه، حيث أرّق مضاجع جيش الاحتلال خاصة بعد انضمامه إلى مؤسسى تنظيم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وتنفيذه أول عملية فدائية فى الداخل المحتل وتحديداً مدينة القدس، قبل أن يتم اعتقاله، وتعذيبه داخل سجون الاحتلال بعد إصابته بـ11 رصاصة، ليتعفن العظم فى إحدى قدميه، ويصدر بحقه حكم بالسجن لمدة 99 عاماً، قبل أن يخرج فى صفقة لتبادل الأسرى التى تمت بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين «القيادة العامة» وحكومة الاحتلال الإسرائيلى، والتى عرفت باسم عملية الجليل 1985، بعد ما يقرب من 15 عاماً على سلب حريته.
واصل «الوحش» مقاومته للاحتلال، ليلفظ أنفاسه الأخيرة فى يناير عام 1989، خلال معركة بينه وبين قوة خاصة إسرائيلية شرقى حى الشجاعية بقطاع غزة، قبل أن يغتاله أحد الجنود ويتمكنوا من سحب جثمانه واصطحابه معهم داخل إحدى المدرعات إلى الأراضى المحتلة، ولم يسلم «محمد أبونصر» من الأَسْر حتى بعد استشهاده، لتحتجزه إسرائيل قبل أن تسلمه إلى العائلة ودفنه دون رأس، بعد التنكيل به وقطع رأسه والاحتفاظ به.
وقال باسل أبونصر، ابن شقيق الشهيد، إنّ «العائلة تسلمت جثة عمى بعد 6 أشهر من ارتقائه، والشهيد كان كاتباً بارعاً ومقاتلاً عنيداً ومناضلاً حتى الرمق الأخير، وهو ما تسبب فى الحقد الدفين تجاهه من جانب الاحتلال»، وتابع: «عشان هيك كان يماطل فينا، وضلوا ستة أشهر كل يوم يبعتولنا جثمان ويدعون إنه لعمى، وكنا نرفض تسلمه، لحد ما أرسلوا جسد لشهيد بدون رأس وجدتى عليها رحمة الله قالت خلاص ناخده وندفنه لأنها تعبت وقلبها انحرق من الوجع على ابنها ومحاولاتها التأكد من هويته لتكريمه ودفنه وزيارة قبره».
نقابة الأشراف تكشف بالوثائق والمستندات: نسب العائلة يعود إلى «آل البيت» وأفرادها منتشرون فى دمياط بمصر وسوريا ولبنان وفلسطين والحجاز
مع تعدد الروايات والمعلومات المنشورة عن أن نسب عائلة «أبونصر»، يمتد إلى عائلة «اليافى»، التى تمتد بدورها إلى آل بيت رسول الله، توجّهنا إلى نقابة الأشراف فى مصر للتحقق من الأمر، وأعدت اللجنة المختصة فى نقابة الأشراف تقريراً خاصاً لـ«الوطن» عن نسب آل اليافى، وخلصت منه إلى أنه يتضح مما سبق فى المراجع ثبوت نسب «آل اليافى»، وأنهم من ذرية أبوالوفا قطب الدين الشيخ عمر بن محمد اليافى الحسينى بن محمد الدمياطى، المتصل نسبه إلى الإمام على زين العابدين بن الإمام الحسين السبط بن الإمام على بن أبى طالب والسيدة فاطمة الزهراء بنت سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وتبين من تقرير نقابة الأشراف أن «اليافى» من الأسر القديمة المنتشرة فى مصر ودمشق وبيروت ويافا وغزة، وقد استقرت الأسرة قديماً فى دمياط ومنها هاجر جدهم محمد بن عمر بن صالح إلى يافا حيث ولد ولده السيد أبوالوفا قطب الدين عمر اليافى، وتفرع من هذا البيت فى بيروت ودمشق جماعة كثيرون ومن فروعهم أسرة أبوالنصر فى لبنان وفلسطين وأسرة الزهرى فى حمص بسوريا.
وذكرت النقابة فى تقريرها أن الشيخ عمر بن محمد بن محمد الدمياطى اليافى شهرة ومولداً، الغزى وطناً، الحنفى مذهباً، الحسينى نسباً، ولد فى مدينة يافا سنة 1173 هجرياً، وتوفى فى دمشق سنة 1233 هجرياً، ومن عقبه الشيخ محمد الملقب بالزهرى والشيخ محيى الدين، الذى تولى الإفتاء فى بيروت، والشيخ محمد أبوالنصر، توفى بمصر سنة 1280 هجرياً، وهو من وجوه بيروت وأعيانها، وأقام عدداً من الزوايا فى بيروت وطرابلس، ووهبه السلطان عبدالمجيد قطعة أرض فى ساحة البرج فى بيروت، أقام عليها زاوية ومنزلاً، ونزلاً وسوقاً، وقد أقام عنده الأمير عبدالقادر الجزائرى فى طريق هجرته إلى دمشق، وهو جد أسرة أبى النصر فى بيروت.
وحسب تقرير نقابة الأشراف فى مصر والموقع الرسمي لأسرة «آل اليافى»، فإن خريطة جذور وأماكن تجمع العائلة بالوطن العربى إجمالاً فى بلدان «السعودية ومصر وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق»، حيث خرج جدود العائلة مهاجرين من مكة المكرمة إلى بلاد المغرب العربى، وانتقلت العائلة بعد ذلك واستقرت فى مدينة دمياط بمصر، ومن دمياط انتقل الجد الأكبر «محمد بن محمد بن صالح» إلى يافا فى فلسطين ومنها انتقل إلى نابلس ثم مصر للدراسة فى الأزهر، ثم مرّ بغزة وتجول فى البلاد الشامية والحجاز إلى أن وصل دمشق فى سوريا، وفى القرنين التاسع عشر والعشرين انتشر أبناء عائلة «آل اليافى» فى سوريا ولبنان ومصر، وفى منتصف القرن التاسع عشر انتقل عبدالبديع اليافى إلى جدة واستقر بها وأسس فرعاً للعائلة من جديد فى الحجاز، وحالياً يقيم جزء من العائلة فى يافا بفلسطين التاريخية، وعددهم 300 شخص، وجزء منهم فى مدينة رام الله بالضفة الغربية، وجزء آخر هاجر إلى غزة وهم الذين ارتكبت فيهم مجزرة 29 أكتوبر 2024.
«الشريف»: النقابة صاحبة الصفة الرسمية الوحيدة فى العالم وتاريخنا يرجع إلى 1200 سنة
وقال السيد الشريف، نقيب الأشراف فى مصر، إن النقابة صاحبة الصفة الرسمية الوحيدة فى العالم وتاريخنا يرجع إلى 1200 سنة، وهناك حفظ لأنساب آل البيت فى الديوان الملكى الأردنى والديوان الملكى المغربى وبعض التجمعات فى بعض دول العالم.
«حسام»: أول عملية اختطاف لأجنبى داخل الأراضى المحتلة تمت بيد أحد أفراد العائلة
وقال حسام أبونصر، ممثل فلسطين فى اتحاد المؤرخين العرب وعضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، إن لقب العائلة ينطق «أبونصر» و«أبوالنصر»، ويقيم جزء منها فى يافا وهم الأقرب للفرع الذى استشهد منهم فى المجزرة الأخيرة، موضحاً أن هناك 300 شخص من العائلة حالياً فى البلدة القديمة رغم تضييق الاحتلال عليهم، ومنهم من هاجر إلى غزة ومنهم بقى فى يافا، وهناك عائلة أبوالنصر فى لبنان ومنهم من هاجر إلى مدينة دمياط فى مصر، مؤكداً أنه «لا يوجد فى فلسطين عائلة أبوالنصر سوى فرعنا فقط»، والوثائق العثمانية تفيد بأن أهالى قرية «دير سنيد» هم من بنى غَزِية بن أفلت بن ثعلب من طىء من القحطانية، التى تعود جذورها إلى الجزيرة العربية.
بودكاست.. حكاية عائلة فلسطينية تاريخية يسعى الاحتلال لاقتلاعها من جذورها
وعن التاريخ النضالى لعائلة «أبونصر» أضاف «حسام» أنها تعتبر من أهم وأكبر الحمايل فى قرية دير سنيد وتتكون من الأسر التالية «أبوالنصر، الحاج، عبدالرحمن، الصليبى، عليان، الشيخ خميس أبوالنصر»، مشيراً إلى أنه مع بداية العدوان على غزة بعد 7 أكتوبر 2023 استهدف الاحتلال مربع «السنايدة» فى شارع الهوجة بمخيم جباليا، وهو الذى تعيش فيه أغلب عائلات قرية دير سنيد ومنهم عائلة «أبونصر».
وتابع: «أكبر مجزرة ارتكبها العدو الصهيونى منذ عام 1948، وحتى عام 2024 هى التى ارتكبت فى 29 أكتوبر الماضى فى حق العائلة التى كانت وما زالت دائماً مستهدفة من الاحتلال».
«الوحش» خلق حالة من الذعر داخل الكيان المحتل
ولفت إلى أنّ هذا الترصد والانتقام يعود إلى أن أول عملية اختطاف لأجنبى داخل الأراضى المحتلة لأسباب سياسية تمت بتخطيط وتنفيذ من خاله محمد أبونصر «الوحش»، حتى اعتبرته الدوائر الإسرائيلية عام 1989 وعلى رأسها وزارة دفاع الكيان المتمثلة بوزيرها موشيه أرنس آنذاك من أكثر العناصر الثورية الفلسطينية المطلوبة، عقب قيامه فى العام ذاته بعملية خطف للأمريكى «كريس جورج» الذى كان يعمل ضمن بعثة الأمم المتحدة.
«الوحش» خلق حالة من الذعر داخل الكيان المحتل.. وأمروا بتصفيته بسبب عملياته الفدائية لتصدر الأوامر بتتبع «محمد» وتضييق الخناق عليه، وتمت ملاحقته بشكل واسع، ليتم عقب ذلك اتخاذ قرار إسرائيلى على أعلى مستوى بضرورة تصفيته بعد الاشتباك فى منطقة السرايا وسط قطاع غزة.
وعاد «نصر» بذاكرته إلى ما يزيد على 50 عاماً، وتحديداً فى العام 1967، ومع بداية الحرب بين مصر والاحتلال الإسرائيلى، حيث حفرت والدته خندقاً بالقرب من منزلهم بمخيم جباليا شمال القطاع، لتقيم أسرتها داخله شهراً كاملاً، وأضاف: «كان الهدف من هذا الخندق هو الهروب من القذائف والصواريخ اللى كانت تنزل فوق رؤوسنا وتستهدف بيوتنا، وكانت أمى فقط تخرج عشان توفر لنا الطعام، أما أنا ووالدى وإخوتى ما كنا نعرف شو اللى بيصير بره الكام متر اللى قاعدين فيهم، وكنا نعرف الأخبار من والدتى؛ إنه فلان من العائلة استشهد أثناء مقاومته للعدو، وأصبحوا بالعشرات».
وبعدما وضعت الحرب أوزارها، عادت أسرة خميس أبونصر أدراجها نحو منزلها، لتبدأ رحلة أخرى من المعاناة وضيق العيش، وتابع: «الحياة فى جباليا أثناء فترة السبعينات كانت صعبة للغاية، فالاحتلال كان يفرض سيطرته الأمنية على الأهالى ويضيّق عليهم نواحى الحياة، وفى القلب من تلك الأسر عائلتنا، انتقاماً منا بسبب مقاومتنا لمن اغتصب أرضنا وهجّرنا من ديارنا».
سيدات العائلة حملن لواء المقاومة.. «نصرة» حملت السلاح ضد المحتل 40 عاماً وأسست اتحاد المرأة الفلسطينية.. و«أديبة» كانت تؤوى المقاومين فى منزلها لعشرات السنين
لم تقتصر عمليات المقاومة والعمل الفدائى على ذكور«أبو نصر»، وبملامح النساء وهمّة الرجال وتفكير المناضلين وشجاعة الفدائيين، كانت نصرة أبونصر حاضرة فى ساحات المقاومة والقتال فى الجزائر ولبنان وسوريا وفلسطين، فى ثمانينات القرن الماضى، حملت السلاح إلى جانب زوجها ورفيق دربها؛ الشهيد محمود أبونصر، لتواجه المحتل فى الجنوب اللبنانى كمجندة مقاتلة فى صفوف الفدائيين الفلسطينيين للتصدى لقوات الاحتلال الإسرائيلى عام 1982، لتحفر مقاومتها للجنود والآليات العسكرية آثارها البارزة فى شخصيتها الثائرة، التى قالت عنها إن «المرأة الفلسطينية فدائية سواء فى بيتها وهى تنجب وتربّى أجيالاً من المقاومين والفدائيين، أو وهى على جبهة القتال تقاتل جنباً إلى جنب مع الرجل»، ونشأت الطفلة الصغيرة فى أسرة من الفدائيين، سواء مع أشقائها أو بعد زواجها من زوجها الراحل محمود أبونصر، الذى تنقلت معه من بلد إلى آخر وشهدت مطاردة الاحتلال له ومعاناة حرب بيروت واستشهاد شقيقها محمد أبونصر، وأسْر باقى أشقائها، وأخيراً إصابة زوجها الذى كان مقاتلاً فى صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، واستشهاده متأثراً بجروحه بعد عودته إلى أرض الوطن وتحديداً قطاع غزة صحبة أبنائهما منتصف التسعينات.
محطات النضال فى حياة «نصرة»، لم تقتصر فقط على حملها السلاح والقتال بثبات ورباطة جأش، بل اتجهت إلى العمل العام بعد استقرارها لعدة سنوات فى الجزائر، حيث كانت أحد مؤسسى «الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية»، لتكتوى السيدة الستينية بنيران الاحتلال مرة أخرى، ولكن هذه المرة عام 2014 عندما تم تدمير منزلها جراء غارة إسرائيلية، لتعود طائرات الاحتلال مرة أخرى إلى استهدافها انتقاماً من تاريخ عائلتها المقاوم لهم، حيث نجت من صواريخ أطلقتها المقاتلات الحربية على منزلها بحى النصر فى مدينة غزة عام 2021، لتلقى ربها بعد إصابتها بمرض السرطان وتسلم روحها لخالقها خلال العام الجارى، حيث تركت إرثاً وتاريخاً نضالياً حُفر على أرض فلسطين، ولم تكن الحاجة «نصرة» السيدة الوحيدة التى تملك تاريخاً نضالياً فى عائلة «أبو نصر»، إذ كان منزل شقيقتها الكبرى الحاجة «أديبة»، مأوى ومخبأ للمقاومين والمقاتلين الفلسطينيين، على مدار عشرات السنين، كما كانت تساعد أشقاءها وتحفزهم وتحرضهم على العمل الوطنى ضد جنود الاحتلال، قبل أن تسلم روحها إلى خالقها قبل 6 سنوات.
صمود «جهاد» ضد عمليات التعذيب والتنكيل داخل السجون الإسرائيلية يُجبر الاحتلال على سن تشريع خاص للحكم على الأسرى دون أدلة.. وحكموا عليه بمجرد وجود شاهد لا يعرفه
وكان لعائلة «أبو نصر» بصمتها فى القوانين الإسرائيلية، إذ إنه فى سابقة هى الأولى من نوعها فى تاريخ ساحات القضاء ومحاكم الاحتلال الإسرائيلى، أقر الكيان الصهيونى فى ثمانينات القرن الماضى قانوناً جديداً لمحاكمة الأسرى ونزع الاعترافات منهم دون اعتراف المتهم، فضلاً عن الحكم عليه بمجرد وجود شاهد لا يعرفه، وكان بطل هذه الواقعة الأسير الفلسطينى المحرر جهاد أبونصر، بعدما أصر على عدم الاعتراف بأى عمليات فدائية قام بها ضد الجنود والمستوطنين، أثناء عمليات اعتقاله واستجوابه، رغم التعذيب والتهديد والترهيب الذى كان يتعرض له، ويُعرف بـ«قانون تمير السرى»، وتم إقراره خصيصاً لـ«جهاد» ورفاقه الذين تمكن الاحتلال من اعتقالهم بعد قيامهم بإحدى العمليات ضد قوة إسرائيلية خاصة، أثناء انضمامهم إلى صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ليقضى الأسير الكتوم 12 عاماً خلف القضبان على فترات متعاقبة.
وقال ابنه محمد أبونصر: «والدى كان صامتاً تماماً أمام محاكم الاحتلال لا يدلى بأى معلومات إطلاقاً وكان المحققون يفشلون فى كل مرة فى الحصول على اعترافات منه سواء فيما يتعلق بعملياته أو معلومات عن المقاومين الآخرين ولذلك كانوا يعتقلونه إدارياً لما يقارب 6 أشهر وبعدها يفرجون عنه لأنه لا يوجد ما يدينه، إذ لم يعترف بأى شىء، ولكن بعد فترة من اعتقاله ويأسهم من انتزاع أى معلومات، أقرت إسرائيل قانون «تمير» الذى ينص على أنه يحق اعتقال الفلسطينى ومحاكمته والحكم عليه بمجرد وجود شاهد واحد حتى وإن كان لا يعرفه وليس من الضرورى أن يعترف الأسير بالتهم الموجهة إليه»، وهو الأمر الذى مكّن الاحتلال من الزج بـ«جهاد» داخل السجن والتنكيل به وتعذيبه، إلا أنه ظل ثابتاً على موقفه والتمسك بالصمت، ليتم الإفراج عنه مطلع التسعينات، وصدور قرار بإبعاده قسراً إلى الأردن، فى محاولة لمنع تواصله مع العناصر والمجموعات المسئول عنها حينها، ليعود من جديد إلى قطاع غزة، حيث عائلته المهجّرة من قرية دير سنيد، ليجمع شمل أسرته التى فرقها الاحتلال.
ورغم معاناة العائلة من استهدافات وبطش الاحتلال لتفرقة أبنائها واقتلاع جذورها، إلاّ أنها استطاعت المحافظة على التواصل فيما بينها، وأضاف «نصر»: «التنكيل اللى كنا وما زلنا نعيشه لم ينجح فى قطع أفراد العائلة عن بعض، وقدرنا نحافظ على ترابطنا وتواصلنا، يعنى رغم محاصرة الجنود والقوات الخاصة لمنطقتنا ومنزلنا فى كثير من الأحيان، إلاّ أننا كنا مجرد ما تنسحب المدرعات والدبابات نتجمع سريعاً فى مكان يسمى المقعدة وهو يشبه دوار العمدة ويقع بالقرب من سوق جباليا، حيث كان لذلك المكان الفضل فى امتداد وتوسع العائلة فى شمال القطاع ولاحقاً وصولها إلى جميع مخيمات غزة وزمان ما كان فيه هواتف محمولة، وإذا توفرت فهى ليست أمراً دارجاً للجميع، وبالتالى كانت المقعدة مكاناً للتواصل والاطمئنان على أفراد العائلة، ونتجمع فيه أسبوعياً من العصر إلى العشاء، بالإضافة إلى التعارف وإتمام زيجات كثيرة، وبالتالى المحافظة على نسل وامتداد وتواصل عائلتنا العريقة حتى اليوم، إلاّ أن الحرب التى يشنها الاحتلال الإسرائيلى على قطاع غزة تسبب فى إنهاء وتوقف تلك التجمعات والمقعدة انقصفت والناس استشهدت، ولم يعد هناك حجر على حجر فى المخيم ومنازله».
لم تتوقف عائلة «أبو نصر» عن العطاء للوطن وساكنيه، فبعد أن روت دماؤهم تراب فلسطين، شهدت السجون الإسرائيلية واحدة من التضحيات التى لا ينساها الفلسطينيون رغم مرور ما يزيد على 40 عاماً، كان بطلها الأسير زياد أبونصر، حيث تسببت مقاومته وتصديه لبطش جنود الاحتلال الإسرائيلى فى قطاع غزة فى اعتقاله ودخوله السجن، مطلع الثمانينات، ليحكم عليه بالحبس لمدة 14 عاماً، وبعد مرور عام واحد على أسره، تم إبرام صفقة تبادل للأسرى بين الجانب الفلسطينى وحكومة الاحتلال، وكان «زياد» ضمن المسجونين الذين تضمنت القائمة أسماءهم، وقبل ساعات قليلة من الإفراج عنه وفك الأصفاد ومغادرة بوابة السجن، قرر الأسير العشرينى حينها التضحية بنفسه والتنازل لأحد الأسرى من كبار السن وذوى الأحكام المؤبدة للخروج بدلاً عنه.
«زياد»: رفضت الخروج فى صفقة أسرى ليخرج من هو أكبر منى وقضيت 14 عاماً داخل السجون الإسرائيلية تعرضت فيها للتعذيب والانتهاكات.. وكل ما حدث كان دافعاً قوياً لمواصلة المقاومة والنضال
وقال «زياد»: «قضيت محكوميتى كاملة داخل السجون الإسرائيلية وهى 14 عاماً، تعرضت فيها لشتى أنواع التعذيب والانتهاكات والمعاملة غير الإنسانية، ولكن كل ما حدث بحقى كان دافعاً قوياً لمواصلة المقاومة والنضال بعد التحرر، فانتزاع حقنا فى أرضنا ودورنا هو شىء فى جينات أفراد عائلة أبونصر»، وبمجرد أن عانق الحرية وارتمى فى أحضان الوطن، قرر «زياد» الالتحاق بصفوف السلطة الفلسطينية، وتابع: «التزمت بخدمة الوطن على كافة الجبهات والأصعدة، والدفاع عن أبناء شعبى»، ولم تتوقف محطات النضال والتضحية للمسن الستينى عند الندوب والإصابات التى باتت شاهدة على تاريخه فى المقاومة، إذ قدّم أبناءه «مشعل وجنين وزكية»، شهداء على طريق تحرير فلسطين والعودة إلى البلدان والقرى المُهجّرة، فى استهدافات متتالية خلال الحرب الأخيرة التى يشنها الاحتلال الإسرائيلى على قطاع غزة.
وأكد إسماعيل الثوابتة، مدير مكتب الإعلام الحكومى فى قطاع غزة، أن عائلة «أبو نصر» التى يتركز أفرادها فى شمال القطاع وتحديداً مدينة بيت لاهيا ومخيم جباليا، تعد من أعرق عائلات القطاع، بينما تقطن فروع أخرى من العائلة أماكن وأحياء أخرى فى مدينة غزة، وفى مناطق الجنوب.
وقال «الثوابتة» إن الاحتلال الإسرائيلى يستهدف العائلات الفلسطينية بشكل ممنهج ومدروس للقضاء عليها واقتلاعها من جذورها ومحوها بالكامل من السجل المدنى الفلسطينى ضمن حرب الإبادة الجماعية التى يشنها الكيان منذ أكثر من عام، وهو ما حدث بالفعل مع العديد من العوائل على امتداد القطاع من شماله إلى جنوبه، ومنها المجزرة التى ارتكبتها طائرات الاحتلال أواخر شهر أكتوبر الماضى بحق أفراد عائلة أبونصر ودكت بالقنابل والصواريخ المدمرة والمخصصة لاختراق التحصينات بناية من 5 أدوار فوق رؤوس أكثر من 300 فرد من مختلف الفئات العمرية (رجال وأطفال ونساء).
وواصل: «رغم كل هذه الأهوال والقتل وسفك الدماء إلاّ أن الفلسطينى والغزاوى لا يزال متمسكاً بأرضه فى وجه المحتل»، مشيراً إلى أنّ عائلة «أبو نصر» كغيرها من العائلات الفلسطينية لديها سجل حافل بالمقاومة والشهداء والأسرى وهذا يفسر وحشية الاحتلال فى الاستهداف والقتل وارتكاب المجازر المروعة.
«إسماعيل» ضحّى بزفافه فى يونيو 2008 ونفّذ عملية فدائية تابعة لكتائب الشهيد «أبوعلى مصطفى» فى مستوطنة «ناحال عوز» بغلاف غزة فى 9 أبريل من العام ذاته وتم استهدافه بصاروخ واستشهد عن عمر 22 عاماً
وامتداداً لتاريخ المقاومة الذى انتهجته العائلة، كان للشاب العشرينى إسماعيل أبونصر، نصيب من النضال، إذ لم يثنِه زفافه الذى كان من المفترض إقامته فى شهر يونيو عام 2008، عن تلبية نداء الوطن وقيادة عملية فدائية تابعة لكتائب الشهيد «أبو على مصطفى»، الجناح العسكرى للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فى مستوطنة «ناحال عوز» بغلاف غزة، وتحديداً فى 9 أبريل من العام ذاته، ليجهز على عدد من جنود الاحتلال قبل أن ينكشف أمره ويتم استهدافه بصاروخ ليستشهد على الفور عن عمر 22 عاماً.
ورغم مرور ما يزيد على 7 عقود من التهجير والنكبة إلاّ أنّ «نصر» لا يزال يمنّى نفسه بالعودة إلى أراضى أجداده فى قرية «دير سنيد»، إذ فارق والده «خميس» الحياة بينما كان حلم العودة يداعب خياله، وقال: «ما كان يتكلم إلاّ عن دير سنيد وكان كل أمله يرجع لداره ويشم هواء مزرعته الواسعة اللى بتفوح منها رائحة الليمون والبرتقال، وما تخلى عن أمله وأمنيته لحد ما مات سنة 1989، وكان عمره حوالى 100 عام»، وواصل: «من اللحظات اللى ما بنساها أبداً هو طلب والدى وهو على فراش الموت إننا ناخده على القرية، وقبل ما يمرض مرضه الأخير وتحديداً سنة 1986، حبيت أحقق له ولو جزء صغير من أمنيته، وأخذته فى سيارتى ورُحنا على القرية وزار بيته وأرضه وشرب من مياه البئر اللى فى مزرعتنا وأكل من العنب والتين، وكان يقولى كأنى ما شربت مياه أو أكلت فاكهة قبل هيك».
50% من أفراد العائلة استشهدوا خلال مجزرة وحشية لجيش الاحتلال استهدفت منازلهم فى 29 أكتوبر الماضى
لم تتوقف تضحيات ومقاومة ومعاناة عائلة «أبو نصر» عند هذا الحد، إذ فقد الرجل الستينى اثنين من أولاده رفقة أسرتهم أثناء المجزرة الأخيرة التى راح ضحيتها ما يزيد على 300 من أبناء العائلة فى التاسع والعشرين من شهر أكتوبر الماضى، وقال: «50% من العائلة بشمال غزة استشهدوا ودمنا فداء فلسطين والقدس ومتمسكون بتراب وطننا وهنضلّ نقاوم لحد آخر فرد مننا».