ثقافة يصنعها الناس (5)
جاءت مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت لتزيد من سطوة الشعبوية، وتعطيها فرصا مفتوحة لطرح فنها وأفكارها مهما كان مستواها، وهو توجه كانت له أسبابه القوية المستمرة، وأولها أنّ هذه المواقع وسّعت كثيرا من تمثيل صوت الناس في الحياة العامة، وفتحت الباب أمام حضوره الطاغي في مجتمع الفُرجة.
وثانيها أنّها أشكال من الفنون والآراء لا يحتاج طرحها وإبداؤها إلى أي جهد شاق يُبذل في التدريب والتعليم وصقل الموهبة.
وثالثها أنّ دخول الناس إلى مجراها المتدفّق لا يحتاج إلى وساطة، ولا يتطلب المرور بحواجز من الاختبار والانتقاء والاختيار.
ورابعها أنّ التقنيات الفائقة التي أتاحتها الوسائل الحديثة وسّعت من القدرة على التعبير، بالكلمة أو الرسم أو التمثيل أو الموسيقى وغيرها، ومنحته جاذبية قوية، والخامس أنّ هذه النوافذ المفتوحة على مصراعيها تمنح شهرة سريعة، وقد تدر على بعض منتجي الشعبوية هذه مالاً وفيراً.
وإذا كانت ثقافة النخبة قد أصابتها شعبوية غير أصيلة، بينما الثقافة الشعبية الأصيلة قد جرحتها ثقافة نخبوية تلاعبت بها أو غطت عليها نسبيا فإننا صرنا، في كل الأحوال، أمام هجين له السطوة أو الغلبة، بحيث صارت القريحة الشعبية شبه معطوبة، فلا تنتج أساطيرها وحكاياتها القوية القادرة على تجاوز الأزمنة والأمكنة، ولا ثقافة النخبة برأت من تأثير شعبوية زاحفة، فتبادل الطرفان الإفساد، وصار الفن المغرق فى الإبداع والتفرّد عزيزاً، وبات الفن الشعبي ليس على رسوخه القديم.
وبعد كل ما أُلقي في نهر الإبداع الأدبي والفني هذا من أسباب كافية لتلويثه، صار الحديث عن «ثقافة إلى أعلى» و«ثقافة إلى أسفل»، بالمعنى الذي سبق شرحه، محض شيء نادر، أو حالة من الماضي، فلا المأثور الشعبي ظل على حاله من النقاء، ولا ثقافة النخبة صار بمكنتها التخلص من تأثير الشعبوية الزاحفة بقوة.
وبدلاً من أن يتم التلاقي والامتزاج بين الاثنين في مساحة هائلة من الإيجابية والتفاعل الخلاق، صار العكس، إلا ما ندر.
لا يعنى هذا أنّ الملاحم والسير التقليدية قد راحت أو طمرها النسيان، لاسيما بعد أن تم تسجيلها في كتب، ولم ينتهِ بعد رواتها الوارثون، لكن قدرة المخيلة الشعبية على إنتاج سير جديدة ربما تباطأت كثيرا، لأسباب كثيرة أكثرها يتعلق باستسلام القرائح الشعبية لما تصدره وسائل إعلام آتية من بعيد عن القرى والبيئات الاجتماعية التي تجرى على سجيتها، وتُنتج أساطيرها على مهل، وتعيد فيها وتزيد حتى تنضج وتقاوم الذوبان والنسيان.
على التوازي، فإنّ النخبة وتحت لافتات تترسّخ فنيا من العجائبية والغرائبية والواقعية السحرية راحت تنتج أساطيرها الجلية في روايات وملاحم، تنتمي في بنيتها إلى الشكل الحديث من فن السرد، وصار بمكنة شعر العامية بمختلف ألوانه والأزجال كذلك مما تنتجه النّخبة، أن يقتربا من الفن الشعبي في صورته الأولية.
لكن الانشغال بالآداب والفنون الشعبية لم يعد مقتصرا على النخبة الثقافية من منتجي الرواية والقصة والمسرحية والشعر والفيلم السينمائي والأغنية واللوحة المرسومة والنحت وغيرها، بل صار جزءا أصيلا في الدراسات الاجتماعية والأنثربولوجية وعلم الاجتماع الديني، بل لا يمكن للعلوم السياسية والفلسفة أن تتفاداه، إن أرادت أن تنتقل من التجريد إلى التجريب.
إن هذا يؤكد في النهاية وحدة الثقافة الإنسانية، فما هو في الأسفل يصعد، وما هو في الأعلى يهبط، وليس النازل أفضل من الصاعد، ولا الصاعد أفضل من النازل، إلا بقدر إخلاص كل منهما لما يؤدي إلى تحسين شروط الحياة، فكم أنتجت النخبة فنا وأدبا رجعيا، وكم أنتجت الطبقة الشعبية فنا يدفع إلى الأمام.