ثقافة يصنعها الناس (4)
استقرت الحكاية الشعبية، بوصفها فناً مستقلاً، فى وجدان الناس وضمائرهم جيلاً بعد جيل ويعبر عن قضايا حياتية إنسانية ووطنية لها دور مهم فى صناعة أو صياغة دراما اللوحة التصويرية المعاصرة، حيث يمنحها صدقاً فى التعبير، وبعداً عن النمطية، ويغذيها بأفكار مبتكرة، تخلق تكوينات فنية مختلفة، نظراً لأن الرواية الشعبية، التي تسرد أحداثاً واقعية أو خيالية أو هما معاً، تحمل فى باطنها الكثير من المعاني الاجتماعية والفلسفية والسياسية المتجذرة، التي تنعكس بقوة على اللوحات التي يستعمل راسمها أهم زخارف الفن الشعبي وتقنياته.
وفى الاتجاه المضاد تدلت ثقافة النخبة إلى المستوى الاجتماعي الأدنى، فأفسدت الثقافة الشعبية، بل أزاحت الكثير من مضامينها، ولا أبالغ إن قلت إنها سممتها، حيث أخذت منها عفويتها السارية، وعمقها المقيم، وقدرتها العالية على مجاوزة الزمن، حيث يحمل جيل إثر جيل نصوصها بكافة أنواعها: الأمثال، والحكم، والأغاني والمواويل، والحكايات.
فكل هذا لم يلبث أن خالطه ما جاء إليه من هناك، حيث الإذاعة والتليفزيون والسينما ثم محركات البحث على الشبكة الإلكترونية العنكبوتية.
وقد وجد جامعو الفلكلور أن هذا التسميم قد بلغ مداه، لا سيما فى المجتمعات التى لم تحرص على جمع موروثها الشعبى أولاً بأول.
فى الوقت نفسه، فإن النخبة الثقافية صنعت من الموروث الشعبى زاداً جديداً لها، ضخته فى أوردتها المتيبسة أو المشرفة على التكلس، فمنحتها الحياة والحيوية، أو وظفت هذا الموروث فى خدمة أيديولوجيا السلطة أحياناً، فحولته من نتاج عفوى مفعم بالمعانى الحرة، والقدرة على التحايل والتجاوز والتدافع إلى جزء من الدعاية الصاخبة، التى تصم الآذان، وبعضها أو أغلبها ينتهك المعانى التى عليها أن تثبت فى وجه التغيرات الاجتماعية والسياسية المفروضة من أعلى، والتى تصنعها ظروف قاهرة، ليس للطبقة الشعبية أى دور فى اختيارها.
لقد أثر هذا سلباً على مضامين الموروث الشعبي، التي ظلت قروناً، يتم تداولها، وتكون الإضافة إليها نابتة منها، ولا يدخل عليها شيء غريب.
وهذا التأثير السلبى لم يصنعه فقط التحوير الأيديولوجى لهذا الموروث ليكون تحت أمر السياسة، بل أيضاً، وكما ذكرت، سببه طغيان الفنون التي تنتجها النخبة على الفنون الشعبية، لما للأولى من سطوة الإلحاح والقدرة على الانتشار والإبهار والإزاحة.
ومع عصر الجماهير الغفيرة، صارت الثقافة التي تنتجها النخبة مبتذلة وسطحية لتجذب جمهوراً من المراهقين وأشباه المتعلمين، سواء إلى السينما أو الموسيقى أو الكتابة والصحافة، وأخذت العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة.
وفرض عصر الجماهير هذا، من ناحية أخرى، وجوده، فأصبح بمكنة أبناء الشعب أن يفعلوا ما كان مقتصراً على النخبة فى زمن مضى.
وفى ركاب هذا صعدت الثقافة الشعبية، وأخذت تفرض نفسها على البنية الثقافية العليا المتغلبة إعلامياً، بعيداً عن انتقاء النخبة وتحيزاتها واختياراتها كما كان يحدث سابقاً.
وساعد على تحقيق هذا ظهور «وسائل التواصل الاجتماعي» على شبكة الإنترنت، التي أتاحت لكل شخص فرصة عرض ما يريد، كيفما يشاء، وكلما كان ما يعرضه فظاً غليظاً جارحاً صادماً زادت حظوظه فى التداول والتناول والإقبال، ليس بين الشعبويين فقط، بل لدى أفراد النخبة أيضاً، الذين تساوقوا مع هذا اللون من الإنتاج الفني بفعل تراجع التعليم كيفاً، وتريف المدن، وتدهور القيم التي تعلى من شأن الرقى والإتقان والترفع.