ناصر عبدالرحمن يكتب الشخصية المصرية (4): الرضا
مقام الرضا.. مقام خاص إلهى (رضى الله عنهم ورضوا عنه، ذلك الفوز العظيم). يغلب على طابع المصريين الرضا، ظاهر باطن فى جميع أحوالهم وتفاصيلهم، فى سمرهم وفى غربتهم وفى وحدتهم وفى حيرتهم. المصرى عنده رضاً بالفطرة، دائماً يرضى بالقليل، وفى أوقات الشدة يبدأ بالسخرية والتنكيت، فتافيت المصرى من صورة الرضا، مكونها مكنون وظاهر فى الأسرة مهما كانت طبقتها.
الأسرة الفقيرة نبوية السريرة، نبوية السند، نبوية المصدر.. الرضا فى الأسرة الفقيرة درس للجميع، درس معجز عبقرى لا يخلو من تجلٍّ ملحوظ. كيف يرضى رب أسرة فقيرة؟ تجده مبتسماً يتمرد على قسوة الحياة، يتجاهل جدرانها الصماء، يبحث عن نفس عن طاقة نور، يتسلح بالرضا، وتفاصيل الرضا أوسع وأرحب من الفقر، يزين المكان ويفخم فى الضعيف، يصنع من الصورة فيلماً، ومن الحرف حكاية، ومن النفس ألف ألف حياة، قبل النسبية عرف المصرى الرضا، الذى هو تفصيلة التفاصيل.
«النانو» ما هو إلا اختراع للعيش فى حياة المصرى، يشرب الشاى رغم قلة جودته بكل حب واهتمام يصنعه بالحكى ويفرش له المفارش، والأرض فرش ثمين معروف عند المصريين، يفرش الحصيرة أمام البيت فى الحارة، يوقد النار فى الحطب فى القلح فى الفحم ويغلى الماء بدفء يشير للجيران، تتسع دائرة الشاى للجميع، ضحك وصراخ وشكوى وعتاب، يتصيد المناسبات لفتح نافذة الرضا.
مولد الرحمة النور المصطفى، صلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، وحلوى وطبخ وتراحم برحمة الرحمة المهداة، عاشوراء صيام وتوزيع، والحلو اسمه عاشورا.. موالد السادة الأشراف، مدح وغناء وقلوب طوافة ورضا، رغم الفقر تجده يحوش من لحم الحى، أملاً فى الحج وزيارة المصطفى، يرسم الكعبة على الجدران، تراها رغم الفقر تحوش من لحم الحى لتشترى شوار البنت، تتداين لتشترى الأجهزة والسجاد، كلما تكبر ابنتها تتابع طولها فى رضاً وهى تُخفى الصوانى والفناجين لجهاز ابنتها.
يوم الحنة يوم الأم يوم فرحة الحى يوم الزغاريد، الكل يغنى والبنات كلها فى الحنة، يوم التنجيد، وهو اختراع مصرى، يتلكك بالرضا ليجلب الحظ والفرحة، قطن مصرى فى الشارع، والمنجد وعماله على الحصير يشربون الشاى، وسط الطبل والغناء: «كباية ليبى يا وله كباية ليبى.. لو قطعونى بالحتة ما أسيب حبيبى».
أيام صيد الرضا والمصرى صياد، وكيف لا والنيل شريانه، النيل المعلم الفنان فى قلوب المصريين، النيل مظهر من مصادر الرضا، سهل كالرضا، وللمصرى ذكاء فطرى، جعله يدرك أن الرضا سلاحه، الرضا جدار المصرى وقوت قلبه، لذلك يختار المصرى من الدين أوسطه ويعلن حبه للمصطفى، يبارك ويتوحد مع الأولياء والقديسين ويؤمن بحياة الشهداء، بالرضا ينول المصرى غايته، يُكمل بالرضا هيئته ويُزين بالرضا حياته.
الرضا يتخلل بين علاقات المصرى كالهواء، قاسم مشترك بين المصريين بعضهم لبعض.. المصرى بسيط خفى ظاهر عفيف محب متحمل، النيل يُعلم الرضا للمصرى، يصنع له الزرع والثمر وهو من أسماء الله الحى، هكذا تعلمنا من مشايخنا وأكابرنا، أن نوقر النيل وأن نسلم على حضرته، فهو هبة من الله للمصريين، والهدية من الله تُحفظ بأسرار الحى الذى لا يموت.
الرضا مقام أب.. مقام رب.. مقام ولاية، لا تفكر كيف لأب معاشه على حد الفقر، يعيش وأسرته يخترع من الفول ألف ألف طبخة، يخترع من المش والجبن القديم مليون حكاية، طحين وزيت وطماطم وعيش وبصل، يزين الفول بألف زينة حتى يتقبل التكرار، حتى يقطع حبل الملل، حتى يتخفى من الانطباع بألف انطباع يبتلع به الفول، يفطر بفول عادى مع البصل، يتغدى بفول بصلصة، ويتعشى بفول بالطحينة.
وفى يوم الخميس ممكن بصارة أو مكرونة، يُكمل طعامه بالماء، يشرب الشاى ويفت ويسقى فيه العيش، يبتسم للرضا حتى يمنح طاقة الاستمرار، ويدخل مشاحنات التشجيع فى كرة القدم، أهلى أو زمالك لكى يغلوش ويدارى ويخدع الإرهاق والتعب، يخدع هزيمته المادية بانتصار فريقه، يخدع قلة حيلته بأهداف فى مرمى المنافس، يصطاد بالتشجيع الرضا، كذلك يستعمل المصرى شباك الفن، بالفن ورحلة نجاح البطل يصطاد الرضا، يتوحد مع نجيب الريحانى وأم كلثوم وعبدالوهاب وحليم وعلى الكسار، مع يوسف وهبى وفاتن حمامة وفريد شوقى وسعاد حسنى وعادل إمام.. الفن صياد شباكه تصطاد الرضا، هكذا يستغل المصرى قوته الناعمة فى الدين والفن والرياضة لجلب الرضا.
وكما للأب تفاصيل شباكه لاحتمال الحياة.. للأم تفاصيلها لصيد الرضا داخل بيتها.. فالرضا بالنسبة للأسرة المصرية كالظل يحميها من الرياح والأمطار ومن حرارة الشمس.. الأسرة تستخدم الفتافيت لتحمى نفسها من اليأس والقنوط والضيق، تتحمل قلة الموارد لتخلق أشكالاً مخترعة لاحتمال الجوع والفقر والمرض، تعلم أولادها بالكاد، وإن لم تنجح تصطاد البراهين ليتعلموا صنعة، وإن لم تنجح تصطاد عقد عمل.. تخترع شباك الغربة وتتحمل مرارة البعاد حتى تجذب الرضا لأسرتها.. تستحدث ما كان مستحيلاً لجلب الرضا.. كان المصرى يسكن أرضه ويكره السفر، كانت مصر تجذب الأغراب من بلاد الدنيا، حتى كانت مقصداً وهجرة غير شرعية للوصول والعيش فى مصر، كانت مصر بلد الغرباء، والآن أصبحت مصر بلاد التغريبة، الرضا له شباك متعددة لقصد وجلب الرضا.
تتجلى عبقرية المصرى فى فطرته الراضية، وتظهر واضحة فى الشاب المصرى، الذى يحافظ على سمات شخصيته التى يتوجها الرضا، لا تعلم كيف يعيش وكيف يعمل وكيف يُكمل تعليمه، لا تعلم كيف يستطيع الحب رغم قلة موارده.. للحب دلال وحق رعايته فيه جزء مادى، هكذا يتودد المصرى بالرضا، ويتكفل بينه وبين جاره بالرضا.
ويُكمل زينة حبه بالرضا، يتنفس يومه بالرضا، ويتغلب على تكالب الكره والعداوة والغل والترصد بالرضا، يفارق ما يحب برضاً وإيمان، يجبر نفسه بالرضا، فالرضا بحر يغترف منه المصرى، وسلطانه فى القلوب، هكذا أنعم الله على المصرى بملامح الخصوصية المتمثلة فى الرضا.. فيا أهل مصر حافظوا على كنزكم.. حافظوا على هويتكم ووحدتكم مهما كانت المركب تسبح فى بحر متلاطم خائن.. نجاتكم وجدانكم، وسر بقائكم فى الرضا، يا أهلى وعزوتى وانتمائى، إن الرضا قوت الحب وثمرته.. الحمد لله، اللهم فاشهد.