متى يثق المواطن فى وزارة الصحة؟!
يقف أمام ذلك الشباك كالمعتاد وهو يضع يده فى جيبه ليخرج شيئاً ما!
- لو سمحت عاوز أتبرع للمعهد، كل سنة وحضرتك طيب، رمضان كريم.
ابتسامة خجلى على وجهه، فلم يتمكن من أن يتخلص من خجله الدائم حين يهم بأى عمل من هذا النوع! ينظر إليه الموظف فى برود ثم يجيبه: تحت أمرك، ولكنه لم يخرج ذلك الدفتر الذى سيدون فيه التبرع، فقد انهمك فى أعمال أخرى وكأنه يتعمد إهماله!
لقد اعتاد أن يذهب كل عام لمعهد الأورام القومى ليضع فى خزينته زكاته السنوية بالكامل، إنه والده رحمه الله الذى كان قد أوصاه بذلك، فقد أصابه ورم خبيث ومات بسببه، ولهذا فهو يحرص سنوياً على هذا العمل!
- يا أستاذ، ممكن بس علشان عندى شغل، أنا مش هعطل حضرتك كتير!
كانت الفترة التى انتظرها قد طالت، ولم يلتفت إليه ذلك المحصل بعد.
ينظر إليه المحصل فى شفقة، ثم أمال رأسه للأمام وهو يلتفت حوله كى لا يسمعه أحد:
- بقولك إيه يا بيه، ما تطلع تدى الفلوس للناس فوق بنفسك!
كان الرد مفاجئاً له، فطريقته فى الإجابة تشى بأن المحصل نفسه لا يثق بأن تلك الأموال سوف تصل إلى المرضى من الأساس، ينظر إليه طويلاً، ثم يهز رأسه فى تفهم وينصرف!
المشهد السابق حقيقى بالكامل، وهو يشى بحقيقة مهمة، فالمواطن المصرى لا يثق فى حكومته، ولا يثق فى العاملين بها، حتى وإن انتمى لهم، والمشهد نفسه يمكنه أن يفسر لنا كمية إعلانات التسول للمراكز الطبية التى تنتمى للجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى والتى نراها فى رمضان من كل عام، بل وتحتل نصف المساحة الإعلانية على شاشات التلفاز تقريباً!!
الطريف أن معظم تلك المراكز الطبية تعتبر من النقاط المضيئة فى مصر، على الرغم من أنها تعتمد بصورة أساسية على التبرعات فقط، ولا تمتلك مصدراً آخر للتمويل، وعلى الرغم من أنها تنفق نسبة كبيرة قد تصل إلى ٣٠٪ من قيمة التبرعات التى تحصل عليها فى الإعلان عنها، وتستغل فى ذلك بعض الحالات التى تباشرها، فالكل ما زال يذكر صهيبة التى كانت «عاوزة تعيش» كما لا تزال تصدمه مشاهد الأطفال «محروقى الوجه» التى تظهر يومياً على شاشات التلفاز!!
لقد أخفقت وزارة الصحة فى أن تكتسب الثقة اللازمة لدى المواطن، وتركت المجال مفتوحاً لهيئات غير حكومية لتقوم بهذا الدور دون أن يكون هناك رقيب على أوجه الصرف أو حتى عدد الحالات التى تعالجها، فتلك المراكز -على الرغم من تحقيقها نتائج مرتفعة فى نسب الشفاء- فإنها تتعامل مع المجتمع بمنطق المستشفيات الخاصة، فتقوم باختيار الحالات القابلة للشفاء، وهو أمر غير متاح فى مستشفيات وزارة الصحة وحتى الجامعية، فكلاهما لا يستطيع أن يرفض أى حالة تصل إليه، كما أنها تدفع أجوراً مجزية لأطبائها مما يجعلهم متفرغين للعمل بها، باختصار إنهم يقدمون صورة مشرفة نموذجية لما يفترض أن تكون عليه الرعاية الصحية فى مصر، دون أن تقع تحت سيطرة أو رقابة الحكومة متمثلة فى وزارة الصحة!
الثقة المفقودة بين المريض والوزارة المسئولة عن علاجه هى التى جعلت تلك المستشفيات تظهر بصورة ملائكية، وحرفية التسويق التى تتميز بها إدارات تلك المراكز الطبية بالإضافة إلى عدم تكافؤ الفرص بين الفريقين، التى أدت إلى انخفاض معدلات الشفاء لدى الفريق الحكومى -المظلوم قطعاً- وبالتالى عجزه عن الحصول على التبرعات اللازمة لتنمية الأداء لديه.
ينبغى أن تجد الحكومة وسيلة للتعاون مع تلك المؤسسات بصورة أكثر شمولاً، حتى وإن اقتضى الأمر الحصول على نسبة إجبارية من حجم التبرعات التى تحصل عليها، بدلاً من أن تذهب لجيوب الوكالات الإعلانية، كما ينبغى أن تجد وسيلة لإعادة الثقة بينها وبين المواطن، حتى لا نفيق فى رمضان المقبل لنجد من يدعو للتبرع بوزارة جديدة.. للصحة!!