وداعاً سعود الفيصل.. الملك المتوج على القلوب
جاء نصر أكتوبر 1973، وأنا وجيلى فى مقتبل حياتنا الجامعية.. وكانت هذه الأيام من أجمل أيام مصر.. التى كانت على قلب رجل واحد حتى إن محاضر الشرطة لم تسجل أى مشكلة أو خناقة أو سرقة أو سطو فى هذه الأيام.. وكأن هداية السماء تنزّلت على كل الناس، فلم ينظروا إلا إلى ربهم، ثم إلى أبنائهم الجنود والضباط على جبهة القتال، وكان لكل أسرة جندى أو ضابط فى خطوط القتال وقتها.. فمن أسرتنا كان الشهيد مراد سيد، ابن خالتى وبطل الصاعقة الحاصل على نجمة سيناء، وأحد تلاميذ بطل الصاعقة وأسد مصر إبراهيم الرفاعى.
هذا فى داخل مصر، أما على مستوى الوطن العربى، فقد اجتاحته سكينة الوحدة والتآزر والترابط والتآخى، توجه الملك العظيم فيصل بن عبدالعزيز بموقفه الرائع بتهديد الغرب بقطع البترول عنهم.. وقد دفع حياته ثمناً لذلك.
وقد فتح الملك فيصل خزائن السعودية والخليج كلها لدول المواجهة، مصر وسوريا ولبنان والأردن حتى صارت سنة متبعة من بعده.
ومن يومها انطلق حبى لآل الفيصل إلى أبنائه، فأحببت ابنه الشاعر المرحوم عبدالله الفيصل وأحببت سعود الفيصل، وتابعت منذ بداية السبعينات مسيرته العاقلة والحكيمة فى «الخارجية السعودية»، وكنت أغبطه على هدوئه وحكمته وحنكته وعدم ميله إلى الإعلام أو الشو أو التضخيم أو استعراض القوة أو التطاول على الآخرين أو الكلمات الرنانة والطنانة دون معنى أو واقع عملى.. كما كان يحدث من معظم الرؤساء العرب وأعوانهم فى وقت من الأوقات.
وقد سرت على مذهبى فى الحياة، ألا أمدح أحداً من أهل السلطة إلا إذا توفى أو ترك سلطته، مهما كانت إيجابياته عندى لأسباب كثيرة ألزمت بها نفسى، وكنت وما زلت أعتقد صوابها.
وأعتقد أن الأمير سعود الفيصل كان يتمتع بصفات خاصة جعلت كل ملوك السعودية على اختلاف مشاربهم ومدارسهم فى الحكم والسياسة لا يستغنون أبداً عنه وعن كفاءته وحكمته.
فالمسئولية جسيمة على عاتق وزير الخارجية الذى يدير سياسة دولة إقليمية مهمة مثل السعودية فى عالم عربى وشرق أوسطى تسوده الحروب والصراعات والنزاعات، ويشهد أعلى نسبة حروب وصراعات.. تارة بين إسرائيل والعرب.. وتارة بين الدول والتنظيمات التكفيرية مثل «القاعدة» و«داعش».. وأحياناً الصراع الطائفى الذى يثور فى صورة حرب طائفية فى لبنان أو فى اليمن أو غيرهما.. أو حول المخيمات الفلسطينية، بما يعقبها من مذابح خطيرة مثل «صابرا وشاتيلا» و«تل الزعتر» وغيرهما.. ويتداخل مع هذه الصراعات أنواع كثيرة من الغزو، مثل غزو «صدام» للكويت أو غزو أمريكا وحلفائها للعراق.
وقد تعاقب العشرات من وزراء الخارجية فى البلاد الإقليمية الكبرى بالمنطقة، مثل مصر وإيران وتركيا على «الفيصل».. وكان بعضهم يصيبه عطب العقل أو البدن أو ضعف التكيُّف مع المستجدات.. لكن «الفيصل» استطاع خلال 40 عاماً الخروج من معظم الأزمات العنيفة التى كانت السعودية طرفاً فيها.. أو قريباً منها.
لقد قال «الفيصل» لأحد جلسائه: «لقد قضيت من عمرى وأنا فى الطائرة أكثر مما قضيته على الأرض».
لقد ظل الرجل 40 عاماً كاملة يسافر من بلد إلى آخر، لينقذ ما يمكن إنقاذه من أمته العربية والإسلامية ويخدمها بكل ما أوتى من قوة وكانت قضية فلسطين ووحدة العرب هى شغله الشاغل.. وما من قضية دافع عنها إلا وربح، حتى إنه استطاع أن يجيش العالم كله ضد «صدام» حينما غزا الكويت.. ورغم نوايا «صدام» ضد السعودية، فإنه عارض بشدة غزو العراق.
لقد استخدم «الفيصل» كل نفوذ السعودية والخليج للدفاع عن مسلمى البوسنة والهرسك وإنقاذهم من الإبادة الجماعية والتطهير العرقى.. وكان له ولدول الخليج الأخرى الدور الأكبر فى إعادة بناء مدن البوسنة والهرسك حتى عادت أفضل مما كانت.. واستضاف كل حجاج ومعتمرى البوسنة والهرسك سنوات طويلة على نفقة المملكة.
وكان شعار الرجل دائماً «الفشل ممنوع».. ذلك الشعار الذى أطلقه قبل محادثات الطائف للفصائل اللبنانية المتنازعة، التى أوقفت حرباً أهلية مدمرة كادت تأكل الأخضر واليابس، وما زال هذا الاتفاق سبباً فى بقاء لبنان موحداً حتى الآن، حتى لو كانت هذه الوحدة شكلية.
لقد كان سعود الفيصل داعماً للعروبة والإسلام والسنة فى تسامح وعدم كراهية لأحد وإقرار بالتعددية الدينية والعرقية والمذهبية.
فـ«الفيصل» يُعتبر من وزراء الخارجية القلائل فى العالم الذى اكتسب مصداقية دولية نادرة.. وكانت كلمته ووعده وعهده كالسيف.. وكانت كلماته قليلة ونادرة، لكنها محكمة وقاطعة لا تعرف الهزل ولا الكذب.
لقد قاد هذا الرجل «الخارجية السعودية» لتكون من أقوى الوزارات فى العالم العربى، التى جعلت لها علاقات بدول العالم كله بلا استثناء، تعطى ولا تأخذ.. تحل المشاكل ولا تعقّدها.. لا تمن على أحد.. لا تصنع لها ميليشيات ها هنا أو هناك.. ولا تحب التدخل فى شئون الآخرين إلا إذا تدخل الآخرون فى شأنها أو أضروا بأمنها القومى.
وكانت أى كلمة تصدر من «الفيصل» تعتبر عند الآخرين وعداً ملزماً.. لأنه لم يعرف الهزل أو الكذب أو اللف والدوران.. والإتيان بمئات المرادفات التى لا معنى لها.. كما يعتاد أكثر الساسة.
ستتعب السعودية كثيراً حتى تجد نظيراً أو شبيهاً له.. وستتعب دول كثيرة كانت ترتاح للتعامل معه كما ارتاحت للتعامل مع أبيه الملك الراحل.
ألم أقل لكم «إنه ابن أبيه حقاً».. رحم الله الملك فيصل.. ورحم الله «سعود» الذى توجته الجماهير العربية ملكاً على قلوبها، والذى أبى إلا أن يختم حياته مع عوام المسلمين فى المسجد الحرام ليصلوا عليه فى آخر لقطة من حياته.. ولم يكن يدرى أن الله سيختم له بخاتمة مبشرة جداً.. موت فى شهر رمضان وفى العشر الأواخر.. ويصلى عليه فى أعظم مساجد الأرض وفى أكبر تجمع بشرى للصالحين والمؤمنين فى أجمل لحظاتهم وأصفاها وأنقاها.. إنها بشرى للرجل.. و«تلك عاجل بشرى المؤمن»، كما ورد فى الحديث الشريف.