يوم هادئ في أبيدوس
اعتاد الكتبة فى مصر القديمة أن يستهلوا بردياتهم بكتابة ثلاثة أسماء من ملوك مصر العظام هم على الترتيب: الملك نعرمر صاحب الفضل فى أول وحدة سياسية التأم فيها شمال مصر وجنوبها، والثانى هو الملك منتوحتب الثانى الذى أعاد توحيد البلاد مطلع الأسرة الحادية عشرة بعد ما تفككت مصر ودخلت فى نفق مظلم من الفوضى والاضمحلال استمر لعشرات العقود عقب انهيار الدولة القديمة، أما ثالث الثلاثة فهو الملك أحمس الأول قاهر الهكسوس ومحرر مصر من أول احتلال اجتاح الدلتا كاملة ولم يستطع أن يتوغل فى الصعيد فتوقف نفوذه على مشارف المنيا.
يعرف الجميع الملك أحمس الأول ويعرفون أسلافه كامس وسقنن رع، فقد ألف نجيب محفوظ روايته الشهيرة «كفاح شعب طيبة» رغبة فى تمجيد كفاح هذه الأسرة العريقة، ولأن محفوظ كان يفكر فى إعادة تقديم التاريخ المصرى القديم فى قالب روائى إسهاماً منه فى السجال الدائر حول الهوية المصرية فى القرن المنقضى، أنجز نجيب من مشروعه روايات كفاح طيبة وعبث الأقدار ورادوبيس والعائش فى الحقيقة، وتوقف مشروعه الروائى لينحاز لعوالم مصرية أخرى اكتشفها من غوصه فى أعماق الحارة المصرية.
تفهَّم المصريون القدماء قيمة وحدة البلاد وحمايتها من أطماع الغزاة، واعتبروا أن الملوك الذين حافظوا على الوحدة السياسية لمصر والذين ناضلوا فى سبيل تحرير ترابها من الغزاة يستحقون الاحتفاء وعلو الذكر طيلة الزمان أكثر من هؤلاء الذين بنوا المقابر الفاخرة والمعابد الشاهقة، ولذلك فإن اسم أحمس لم يتخذه ملك مصرى آخر سوى ملك واحد فى العصور المتأخرة، وكأنهم بذلك يحاولون استعادة بعض من المجد القديم.
مرت الأيام ونحن لا نعرف عن حرب التحرير سوى الملوك الثلاثة سقنن رع وكامس وأحمس، غير أن يوم ١٤ يناير عام ٢٠١٤ جاء لنا بالجديد، فقد كشفت بعثة جامعة بنسلڤانيا العاملة فى أبيدوس بمحافظة سوهاج عن مقبرة ملك مصرى يُدعى «سنب كاى» ذُكر اسمه فى بردية تورين التى وثقت أسماء ٢٣٣ ملكاً مصرياً قديماً، وظل مجهولاً لا نعرف عن سيرته شيئاً حتى كشفت معاول الحفر عن مقبرته البسيطة فى أبيدوس، دُفن سنب كاى فى مقبرة من الطوب اللبن وفى تابوت خشبى ولم تحظ مومياؤه بالتحنيط اللائق بملك حكم مصر العليا والسفلى.
ولكن الزمان حفظ لنا الهيكل العظمى للملك، وعلى الفور شرعت الجمعية الجغرافية فى فحص الهيكل وبيان الصفة التشريحية للمليك، فجاء التقرير ليكشف لنا عن معلومات ثمينة، فقد أظهر فحص عظام الفخذ أن طول الملك كان يقارب حوالى ١٧٥ سم، وهو بعينه متوسط طول المصريين الحاليين تقريباً، أما عظام الحوض فقد أثبتت أن الملك عاش زهاء أربعين عاماً، أما فحص العمود الفقرى فقد ثبت من حالة الفقرات أن الملك كان يمتطى جواده لفترات طويلة ما يؤثر بدوره على حالة الفقرات.
أما الجمجمة فقد أثبتت الأشعة أن بها ثلاثة جروح متفاوتة الحجم أحدها أكثر عمقاً فى مؤخرة الرأس، كما وجد الباحثون آثار لضربات متفرقة فى بدن الملك المغدور، رجَّح باحثو جامعة بنسلفانيا أن سنب كاى قُتل فى أثناء قتال مرير خاضه ضد الهكسوس الغزاة، وما يرجح هذه الفرضية أن حجم جروح الجمجمة يكاد يتقارب مع الإصابات التى يمكن أن تُحدثها الأسلحة الهكسوسية فى هذا الزمان.
وأضافوا أننا على بُعد خطوات من إضافة صفحات جديدة لنضال المصريين ضد الهكسوس، صفحة يتصدرها الملك الذى ظل طى النسيان لآلاف السنين وبرز اسمه للأضواء من جديد ليكون من هؤلاء الذين يعيشون تحت ظلال مقولة «لا يُعرف المرء فى عصره».