سجال بين قمتين
انطلاق قمة المناخ (COP29) فى العاصمة الأذرية باكو.. تأملت عنوان الخبر الذى سبقته كلمة «عاجل» الحمراء على شاشة فضائية إخبارية، فيما كان يوجّه مراسل القناة سؤالاً إلى الدكتور محمود محيى الدين، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لتمويل التنمية، عن أثر عودة ترامب إلى البيت الأبيض على قضايا «تغيّر المناخ»، حيث يعرف عنه السخرية منها، وما هى التحديات المترتبة على احتمال انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس مرة أخرى، كما حدث فى ولايته الأولى؟، وكانت الإجابة فى سياق عقلانى يؤكد أننا لا نملك إلا الانتظار حتى يحدث ذلك.
كنت قبل خبر المناخ بدقائق، أتأمل تصريحاً لوزير الخارجية السعودى فيصل بن فرحان آل سعود فى المؤتمر الصحفى الختامى للقمة العربية والإسلامية، التى احتضنتها المملكة العربية السعودية، الاثنين الماضى، وفكرت كيف أن أربع كلمات قد منحتنا تلخيصاً وافياً لقمة الرياض، وهو ما دعا صحيفة عربية لأن تجعله عنواناً لتغطيتها للمؤتمر، حيث قال الوزير السعودى: «لن نتعب من الدبلوماسية»، مؤكداً أن بلاده ومعها جميع دول القمة ستواصل العمل على الوصول لوقف إطلاق النار، مستطرداً: «لأننا نُؤمن بالسلام الذى نحتاجه ونستحقه جميعاً».
وتساءلت ساخراً (بطريقة ترامب): أى مناخ هذا الذى تزاحمنا قمته؟، فيما تحتشد الدول العربية والإسلامية من أجل «وقف النار» ومنح حق الحياة المستلبة إلى المساكين فى لبنان وفلسطين. لقد بلغ بنا الوهن والضعف حداً لا يُحتمل، جعل العالم يترجى إسرائيل للسماح بمرور قوافل الإغاثة المصطفة فى العراء منذ شهور عند مدينة رفح، فيما يلهث الفلسطينيون وراء ما تبقى من فتات الطعام والأمل، بين ركام بيوتهم الخربة التى دمّرها الاحتلال الغاشم، أو فى خيامهم المهترئة التى مزّقها الصبر وليالى الانتظار الطويلة. أىّ مناخ هذا الذى نهتم به فى إقليم تسوده وحشية إسرائيل وطغيانها فى ظل عجز تام للمجتمع الدولى عن ردعها أو اتخاذ أى إجراء يوقف استمرارها فى مخططها الفاسد، ففى صبيحة قمة العرب والمسلمين بالرياض، أطلق أمس وزير المالية الإسرائيلى بتسلئيل سموتريتش تصريحاته المسمومة والفاضحة لنية إسرائيل ابتلاع الضفة الغربية، لتُحقّق وعد ترامب بزيادة مساحة إسرائيل (الصغيرة)، فيما أكدت هيئة البث الإسرائيلية أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو سيطرح مسألة «السيادة على الضفة» فور تنصيب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
حديثى عن قمة الرياض والهم العربى، لا يحمل تقليلاً من أهمية قمة المناخ، لكن تتابع القمتين فى يومين متتاليين جعل المقارنة حاكمة، وطغيان أحداث الشرق الأوسط بتفاصيلها الدامية ومستقبلها المجهول، يجعل التفكير فى المناخ الآن، رفاهية لا نقدر عليها فى عالمنا العربى، كما أن ما يحيطنا من ضغوط اقتصادية محلية يجعل الانبعاث الحرارى أقل صخباً من ضجيج الغلاء وقسوة الفقر.
وتستضيف دولة أذربيجان فى الفترة من 11 إلى 22 نوفمبر 2024، الدورة التاسعة والعشرين لمؤتمر الأطراف فى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ، وكان موقع «الأمم المتحدة» قد وضع عنواناً دعائياً لـ(COP29)؛ «الاستثمار فى كوكب صالح للعيش للجميع»، شارحاً فلسفة هذه الدورة بأنها «فرصة محورية لتسريع العمل من أجل معالجة أزمة المناخ. وسيكون المؤتمر أيضاً لحظة مهمة للدول، لتقديم خطط عملها الوطنية المحدّثة بشأن المناخ بموجب اتفاق باريس، والتى من المقرّر أن تكون بحلول أوائل عام 2025. إذا نُفّذت هذه الخطط بشكل صحيح، فإنها ستمنع درجة الحرارة العالمية من تجاوز 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، وستتضاعف كخطط استثمارية تُعزّز أهداف التنمية المستدامة».
وهنا أيضاً على الموقع الأممى تزاحم الأخبار القادمة من غزة، نظيراتها القادمة من باكو عن الـ(COP) على صفحته الرئيسية، ومنها «لجنة دولية تصدر إنذاراً بأن المجاعة تحدث، أو على وشك الحدوث، فى شمال غزة»، وآخر عن «مخاطر تفكيك الأونروا تضع مصير الملايين على المحك، ونازحون فى غزة يناشدون عدم التخلى عنهم»، ولم يغفل الموقع أخبار السودان «قافلة مساعدات إنسانية أممية لتخفيف أوضاع المجاعة»، ولبنان «وتستمر الحرب فى إيقاع خسائر فادحة فى صفوف المدنيين»، واليمن «الكفاح من أجل المياه»، وغيرها من عناوين يفوح منها البؤس ورائحة الموت، تُخلق بها جغرافيا جديدة تتأهب لرسم خريطة للشرق الأوسط ليست وفق أطماع نتنياهو، ولكن ستصك حدودها بحصاد جرائمه.
المناخ وتغيراته يتمحوران حول دعم الفقراء الذى يتهرّب منه الأغنياء، رافضين إصلاح ما أفسدوه، ومواجهة الأخطار بمزيد من الالتزامات. أما الوجه الآخر لتجبر القوى وفسادها، فهو تبرير الاحتلال وجرائمه، إما بدعم الإجرام الإسرائيلى واستمرار تسليح جيش الاحتلال وإما بالصمت على اغتصاب الحق الفلسطينى والعربى.
وإن كان «الاحتباس الحرارى» الذى يعنى ارتفاع درجة حرارة الأرض، هو الباعث على الاهتمام بالمناخ وقضاياه وعقد القمم الدولية لأجله، فإن الشرق الأوسط يحذّر العالم عبر «قمة الرياض» وصرخات استغاثة المدنيين فى غزة ولبنان، بأن حرارة المنطقة تخطت درجات الغليان، وتوشك أن تحرق العالم.