قصة الانتخابات الأمريكية 2024 (2).. «السياسة الخارجية» تنتخب الرئيس الـ(47) لأمريكا

يصنع الشأن الاقتصادى الفارق الحقيقي في التصويت لاختيار الرئيس، وهو البطل الدائم على مائدة الانتخابات الأمريكية في سائر الولايات، وتمنح الخطة الاقتصادية الناجزة لأي من المرشحين صك القبول، وتدفع الناخب ليتكبد عناء إيصال صوته المؤيد لمرشحه، سواء بالبريد أو بالتصويت المباشر. لكن في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024، صعد نجم ملف «السياسة الخارجية» لينافس بقوة في اللحظات الأخيرة السابقة للتصويت ليصبح بطلها.

بين الغضب والحرب

ويُعزي الدور المتعاظم للسياسة الأمريكية الخارجية، كورقة مؤثرة في انتخاب الرئيس الأمريكي، إلى سببين رئيسيين؛ الأول: التقارب الكبير في استطلاعات الرأي الأخيرة بين ترامب وهاريس، والذي عظَّم من قيمة الأصوات المترددة في الولايات المتأرجحة، أما السبب الثانى فهو تصعيد الشهر الأخير بين إيران وإسرائيل، والذي توَّج عاماً كاملاً انشغل فيه العالم بالحرب فى غزة، وصعَّد من مشاعر القلق من تورط أمريكى كبير خلف إسرائيل في حرب لا يتوقع أحد نتائجها.

لقد انزلقت مشاعر الأمريكان تدريجيا في هذا المسار المفاجئ، بداية بصدمة التعامل الغاشم مع الاحتجاجات فى الجامعات الأمريكية والتى تم تجاوزها بصعوبة بفعل تلاحق الأحداث، ثم الانتقال الأقوى نحو المزيد من التعاطف الشعبى مع الفلسطينيين فى القطاع المنكوب تحت وطأة الإبادة الجماعية فى مجزرة يندى لها جبين البشرية، إلى نُذر حرب قد تتورط فيها بلادهم بسبب الصراع الإيراني الإسرائيلي. ما يضع الرئيس الأمريكي القادم أمام قرارات حاسمة سيضطر فيها إلى أعظم مواجهة منذ الحرب الباردة، خاصة مع تزايد فرص حدوث صدام بين قوى كبرى في الشرق الأوسط والعالم.

أمريكا أولاً

إن النفوذ العالمي للولايات المتحدة الأمريكية أصبح موضع تساؤل، فالحروب المدمرة في غزة وأوكرانيا وأماكن أخرى تثير تساؤلات غير مريحة حول قيمة دور واشنطن، وقد خلفت السنوات الأربع الماضية إرثاً معقداً في علاقات أمريكا بالعالم، بفعل تعاطٍ مرتبك في أغلب الملفات السياسية المتعلقة بالشئون الخارجية، وتأتي الانتخابات الحالية لتعيد من جديد الأسئلة البديهية التي حُسمت منذ عقود، وعاد إليها الشعب الأمريكى بفعل (الترامبية) التي كانت مكبوتة بداخل كثيرين وأيقظها الملهم بطل «الصفقة»، دونالد ترامب، الرئيس السابق والمرشح الحالي والذي ربما بعد ساعات قليلة يصبح الرئيس القادم.

وتتداعى الأسئلة الحرجة؛ فهل ستواصل كامالا هاريس على خطى بايدن بقناعة أن «أمريكا لا تستطيع أن تتراجع إلى الوراء في هذه الأوقات المضطربة»؟، أم سيسير دونالد ترامب مع اتجاهه نحو أن تقود «الأمركة، وليس العولمة» الطريق؟

أخطاء بايدن

لا شك أنّ المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس مجبرة على تسديد جانب كبير من فاتورة أخطاء السنوات الأربع الماضية في تاريخ بلادها، بحكم وجودها على رأس الإدارة الحالية بوصفها نائبة الرئيس، وخاصة ما يتعلق بملف السياسة الخارجية المزدحم بحوادثه، بداية من الانسحاب المخزى من أفغانستان، ومروراً بالتعامل المتراخى مع إيران، والتوتر المستمر فى العلاقات مع الصين، والحرب في أوكرانيا، وانتهاء بالعجز الكبير في الشرق الأوسط أمام معارك إسرائيل في غزة ثم لبنان وصولاً إلى الاشتباك المتصاعد بين تل أبيب وطهران، والذي يمهد إلى حرب شاملة فى المنطقة.

الاختراق الثلاثى

وفى سياق آخر، ينعكس فيه أثر السياسة الخارجية الأمريكية، حيث تواجه الولايات المتحدة حملات دعائية بهدف التضليل من روسيا والصين وإيران تسعى لتقويض الديمقراطية الأمريكية، وتستهدف هذه الدول الانقسامات الاجتماعية من خلال حملات معلوماتية على وسائل التواصل، مستخدمة أدوات كالذكاء الاصطناعي وشخصيات مفبركة، وبالطبع تنشط هذه الحملات بكثافة خلال فترة الانتخابات الرئاسية للتأثير على توجهات الناخبين، خاصة مع ميل بعض الدول لإسقاط مرشح بعينه، مثل إيران التى لم تُخفِ رفضها لعودة ترامب إلى البيت الأبيض، فتجربتها مع حكمه فى الولاية الأولى، جعلتها متهماً رئيسياً في كل الجرائم التخريبية التي طالت حملته الانتخابية.

وتحت عنوان: «الحرب الخفية للتأثير على السياسة الأمريكية»، نشرت مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية تقريرها المهم الذى ترجمه موقع «إندبندنت عربية»، والذى يرصد كيف تسعى الدول الثلاث إلى نشر المعلومات المضللة والفوضى في الولايات المتحدة، ويؤكد التقرير أن: «الصين وإيران وروسيا أعلنوا الحرب على الديمقراطية الأمريكية، وأنهم قاموا بعمل جيد في تصعيد هجماتهم، بينما لم تفعل واشنطن ما يكفي للدفاع عن الفضاء المعلوماتى للبلاد. ومن دون سياسة ردع ذات صدقية سيستمر هؤلاء الأعداء في السعي إلى تقويض الولايات المتحدة».

التصويت العقابى

وعلاقة السياسة الخارجية بالانتخابات هي علاقة تبادلية في التأثير والتأثر، وقد أحدثت «حرب غزة» جرحاً غائراً في قلوب الأمريكان العرب، أكد ذلك تظاهراتهم الرافضة للحرب طوال العام المنصرم. ويشكل العرب والمسلمون الأمريكيون قوة انتخابية نشطة قوامها أكثر من 2.5 مليون ناخب مسجل، ويتركز بعضهم في «الولايات المتأرجحة» مثل ميشيجان وجورجيا، ويتجه أغلبهم للتصويت العقابي لصالح ترامب ضد هاريس، مرجعاً السبب لعجز الإدارة الديمقراطية الحالية وعدم قدرتها على إيقاف الحرب، والتصدى للجنون الإسرائيلي ووحشية الانتقام مما جرى في السابع من أكتوبر سنة 2023.

وفي لندن، كشف استطلاع أجرته شركة «يوجوف» لصالح صحيفة «عرب نيوز» السعودية عن توقعات بمشاركة واسعة النطاق للعرب الأمريكيين في الانتخابات الرئاسية، وأظهرت النتائج أن القضية الفلسطينية تتصدر أولويات الناخبين، مع تقدم طفيف لترامب على هاريس بنسبة 2%.

مستقبل الملف

يبرز الأثر المهمّ لانتخابات الرئاسة 2024 في الولايات المتحدة على ملف السياسة الخارجية ومستقبله، من اختلاف الآراء بين المتنافسين الرئيسيين، المرشحين الديمقراطي والجمهوري، حول أبرز محاور هذا الملف.

وستحدّد انتخابات اليوم اسم الرئيس الأمريكي وغالبية مجلسَي الكونجرس، ولكل من هذه المؤسسات الثلاث دور أساسي في صناعة قرار السياسة الخارجية الأمريكية من حيث التخطيط والصياغة والتنفيذ.

ويتمحور الخلاف ويصل إلى حد التضاد فى التوجه السياسي بين المرشحين في ثلاث قضايا رئيسية، الحرب في أوكرانيا، والمواجهة مع الصين، وأزمة الشرق الأوسط عموما وقصة إيران بشكل خاص.

أما أوكرانيا فإن كامالا هاريس، المرشحة الديمقراطية، ستُكمل على الأرجح ما بدأه بايدن من تقديم كافة أشكال الدعم إلى الحكومة الأوكرانية في حربها ضد الغزو الروسي، والتي تجاوزت حتى الآن 90 مليار دولار، في حين يرفض ترامب وجماعته من أنصار «أمريكا أولاً» هذا الدور المكلف اقتصادياً وسياسياً، من منطلق أن هذه الحرب قد تؤدى إلى صراع أكبر، كما أنها تجبر روسيا لتوسيع محورها السياسي المعادي لأمريكا بضم الصين وإيران مع كوريا الشمالية، ويميل المرشح الجمهوري إلى إنهاء هذه الحرب مستثمراً علاقته المتميزة مع الرئيس الروسي بوتين.

أما الصين، فيتفق المرشحان في اتجاه النظر إلى بكين من كونها منافساً شرساً للولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية، لكنهما يختلفان في طريقة التعامل معها، فرؤية الحزب الديمقراطي الذي تمثله هاريس تدعو إلى تبني نهج أكثر تعاوناً حول المصالح المشتركة بين البلدين، فيما أعلن ترامب (وطبق هذا في ولايته الأولى) ضرورة المواجهة مع الصين من خلال فرض أقسى أشكال التصعيد على كافة الملفات الشائكة بين البلدين.

فيما اجتمع المرشحان على العطاء المطلق لإسرائيل وحماية أمنها ومن خلفهما يساندهما إجماع قوي من الحزبين الكبيرين اللذين يمثلاهما، يُستثنى من ذلك حفنة من الديمقراطيين الذين يميلون مع هاريس إلى وقف فورى لإطلاق النار في غزة ولبنان، ويؤمنون بحل الدولتين كطريق وحيد لتحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، فيما سيمنح ترامب لصديقه (بيبي) رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تفويضاً ليدير المنطقة والصراع فيها كما يشاء، وسيندفعان معاً على الأرجح إلى مواجهة حاسمة مع إيران، فيما ستحاول هاريس استكمال سياسة حزبها مع إيران، والتي ترتكز على إحياء الاتفاق النووي مع طهران، وهو الاتفاق الذي انسحب منه ترامب في ولايته الأولى سنة 2018، بدعوى أنه أضعف من أن يُلزِم إيران بالتخلي عن برنامجها النووى، وأن يضغط للتأثير في سياستها الإقليمية.

ويمكن تلخيص سيناريو مستقبل «السياسة الخارجية» في عهد الرئيس القادم، بأنه فى حال فوز ترامب، فإنّ تصعيداً سياسياً كبيراً سيحدث مع إيران (وربما عسكرياً)، مع مواجهة اقتصادية حادة مع الصين، وتفاهم دبلوماسي مع روسيا (قد ينهي الحرب فى أوكرانيا)، فيما سيبقى وضع الملفات الخارجية على حاله، إذا فازت هاريس واستمر الحكم «الديمقراطي» للولايات المتحدة الأمريكية، وهو استقرار في التعامل لا في الأحداث، فهى كلها قضايا قابلة للاشتعال في أي لحظة.