مدحت العدل.. من البالطو الأبيض إلى صالات السينما وشاشة التليفزيون (1)

كتب: محمد غالب وإمام أحمد

مدحت العدل.. من البالطو الأبيض إلى صالات السينما وشاشة التليفزيون (1)

مدحت العدل.. من البالطو الأبيض إلى صالات السينما وشاشة التليفزيون (1)

كان مشروعاً أريد تحقيقه، وهو إجراء مناقشات مطولة مع صناع السينما، يتحدثون خلالها عن الفكرة.. القصة والحوار، عن الواقع والخيال والخبرات الحياتية والدراسة، عن الأفلام وكواليسها.. عن الحياة. ومنذ سنوات، قررت البدء فى الرحلة السينمائية، والبداية كانت مع التأليف والكتابة، بعمل حوارات مع كبار كتاب السيناريو فى مصر، بطريقة مختلفة لا تعتمد على مجرد السؤال والإجابة، لكنها تناقش تجربة مصرية مميزة، من خلال الغوص داخل «دماغ» كل مبدع.. ونقلها للقارئ فى لقاءات نُشرت فى كتاب «أول الحكاية»، الصادر عن دار معجم، يعرض اختلاف وجهات نظرهم، أفكارهم، طرقهم فى الكتابة. وعندما كان «أول الحكاية» مجرد «فكرة» أنشغل بها طوال الوقت، لا تخرج من رأسى، حكيتها لزميلى وصديقى الصحفى إمام أحمد فتحمس لخوض التجربة معى.. لتخرج لقاءات مع كبار صناع السينما بينهم وحيد حامد، بشير الديك وغيرهما.. وهو ما تنشره «الوطن» لأول مرة صحفياً وإلكترونياً إيماناً منها بأهمية الثقافة وصناعة السينما وتأثيرها على المجتمع.. وتبدأ بنشر حوار الكاتب الراحل عاطف بشاى. وهو ما حمسنى لإجراء مناقشات أخرى مع المؤثرين فى «السينما» استكمالاً للمشروع الذى بدأته. وفى هذا اللقاء تحدث السيناريست الطبيب مدحت العدل عن فيم يفكر الكاتب؟، كيف يصنع الدراما؟، من أين جاء بشخصيات أفلامه؟، كيف كتب الحوار؟، كيف يخلق على الورق؟، عن الغموض والمعالجة، عن علاقة السيناريست بالمنتج والمخرج والممثل والجمهور، عن النسخة الأخيرة من السيناريو. فتح قلبه، وقدم نصائحه للشباب المبدع، وتحدث عن تجاربه الملهمة، بداية من أول الحكاية، مروراً بالمشوار المهم والملهم والذى له كبير التأثير على السينما والمجتمع. 

منطقة المهندسين شديدة الازدحام، والبحث عن مكان لركن السيارة أمر شديد الصعوبة، ودرجة الحرارة المرتفعة، وقتها، أضفت على الجو المزيد من التوتر، خاصة أن موعدنا مع الدكتور مدحت العدل داخل مكتبه اقترب. فجأة.. سارت الأمور كما نريد، وجدنا المكان المناسب لركن السيارة أمام شركة العدل جروب، ودخلنا الثانية عشرة ظهراً، وهو الموعد المحدد من الدكتور مدحت العدل، وأصبحنا داخل مكتبه الذى خرجت منه العديد من الأعمال السينمائية المميزة.

استقبلنا بروحه الشابة، وبذكاء فتح لنا قلبه، وتحدث معنا عن البدايات، والسينما وشبرا، وقلّبنا فى الذكريات لنحكى عن أفلام كتبها «العدل»، وشاهدناها فى طفولتنا وأصبحت جزءاً من ذكرياتنا؛ منها «صعيدى فى الجامعة الأمريكية» و«شورت وفانلة وكاب»، لينتهى اللقاء بعد أن أمدنا بخبراته الحياتية، وجرعة سعادة بعد حديث تخلله كلام عن «النوستالجيا»، وأحلى أيام عشنا فيها.

طبيب مثل أطباء آخرين، عملت 11 عاماً فى هذه المهنة، أرتدى البالطو الأبيض وأكشف على المرضى وأصف لهم الدواء، ثم درست ماجستير فى طب الأطفال، وكنت أستعد للدكتوراه، لكن فجأة وجدت نفسى على «تراك»، آخر مختلف تماماً.

البداية كانت من خلال خيرى بشارة، وهو أول مخرج تعاملت معه فى السينما، طلب منى فى البداية أن أكتب له أغانى فيلم «آيس كريم فى جليم»، لكنه قرر فجأة أن أساعده فى الحوار، قلت له: أنا ماعرفش أكتب حوار فيلم، لكنه أصر على موقفه، فكتبت أول 10 مشاهد فى الفيلم، كتبتها زى ما أنا بحب أتفرج على الأفلام الأجنبى: «الحوار المكثف، الذكى، اللى مفيهوش رغى».

كتابة السيناريو عبارة عن محاكاة كل ما شاهدته، لكن بطريقتك أنت، كل ما هتتفرج كل ما هتتعلم، السيناريست يبدأ صبياً صغيراً لكن إذا طور من نفسه وتعلم وأصقل مهاراته يتحول إلى أسطى؛ لأن الفُرجة بتعلم، والشغل بيعلم، كل ما تشتغل كتير كل ما تبقى شاطر، تعرف تحل مشاكل السيناريو لأنها مرت عليك من قبل.

مع نجاح أول تجربة مع «خيرى»، قرر أن يقدم لى العمل الثانى «أمريكا شيكا بيكا»، حصلت على التجربة كاملة فى هذا الفيلم، وتركت الطب من أجل كتابة السيناريو، لم أتركه من أجل الشعر، لأننى بالفعل كنت أعمل طبيباً وأكتب الشعر، وكتبت أغانى للفنان عمرو دياب فى هذه المرحلة، لكن تجربة السينما دفعتنى لمغادرة الطب تماماً.

طفولة داخل صالات العرض!

تقريباً أنا قضيت طفولتى داخل صالات العرض، نشأت فى شبرا، وهذا الحى كان يضم 17 سينما، وكل أسبوع الأفلام تتغير، أسبوعياً كنت أذهب إلى السينما، «دى مسألة مفيهاش هزار».. كنت طالباً متفوقاً والأول على مدرستى وداخل كلية طب، لكن كل يوم اثنين لازم «أزوغ»، وأدخل حفلة 10، ده اليوم اللى كانوا بيعرضوا فيه الأفلام الجديدة، كنت بروح سينما «روى»، بتجيب أفلام أجنبى، وسينما شبرا، بتجيب أفلام هندى وأنا لا أحب الأفلام الهندى، وحتى الآن لا أحبها، وسينما الأمير كانت من أهم دور العرض فى شبرا فى ذلك التوقيت.

اتفرجت على «كوفاديس»، و«سبارتاكوس»، وكل الأفلام العظيمة، السينما كانت ساحرانى، واتربيت على الأفلام اللى من النوع ده، وجيلى كله اتربى كده، كانت هناك سينما حقيقية، المركز الثقافى الروسى بيجيب كل أسبوع أفلام، ومركز السينما الفرنسى فى المنيرة، وعشرات السينمات فى كل حى، الدنيا تدهورت كثيراً عن زمان، أتذكر فى طفولتى أننى شاهدت فى سينما قصر النيل فيلماً اسمه «بيل دو جور belle de jour».. فى أثناء النهار، اكتشفت عندما كبرت أنه فيلم سيريالى أخرجه لويس بونويل، ويعتبر من علامات السينما فى التاريخ.. «ثقافتى كلها كانت أفلام أجنبية، ماكنتش بتفرج على عربى إلا لو سمعت من كثيرين أن هذا الفيلم عظيم، فأذهب لأشاهده، لكن اللى اتربيت عليها هى الأفلام الأجنبية الأمريكية».

التنوع.. من سفرة الغداء إلى القراءة!

أؤمن أن الكاتب يجب أن يكون متنوعاً فيما يقدمه، كتبت «كوميدى ودراما وأكشن»، وناقشت قضايا تنويرية مجتمعية، هذا التنوع جاء من بيتى أولاً، يعنى أنا والدى كان مهندس، وكان المسئول السياسى عن الاتحاد الاشتراكى فى الأزبكية، وأخى سامى يدرس فى معهد فنون مسرحية، ورمزى الأكبر كان ممثلاً، وأنا أدرس الطب، فالحوار الموجود على ترابيزة السفرة أثناء تناول الفطار أو الغداء كان حواراً متنوعاً لأقصى درجة.

السر الثانى وراء التنوع هو القراءة، عندما تقرأ فى كل شىء تكون قادراً على الكتابة عن كل شىء، عندما كنت صغيراً كانوا يلقبوننى بـ«دودة القراية»، قرأت كمية رهيبة من الكتب، بداية من كتب المكتبة المدرسية، مروراً بكتب المعهد الخاصة بأشقائى، فضلاً عن الأعمال الأدبية الكاملة، والفلسفة، والسياسة، ثم تكتشف عندما تكبر أن كل هذه الخطوط متصلة ببعضها البعض.. فأنا ابن لهذه المدرسة، مدرسة التنوع الثقافى والفكرى والفنى.

شبرا والديوان وطنط أولجا!

شبرا لها تأثير طبعاً فى مسألة التنوع، التعددية موجودة فى شبرا، قبول الآخر، البيت الذى تربيت فيه كانت كل العائلات فيه مسيحيين، باستثناء نحن وعائلة أخرى، وكان يسكن فى هذا البيت وكيل وزارة وترزى، كانت مصر واحدة بتنويعات كثيرة، لم يكن هناك مسلم ومسيحى، أو سكان كومباوند الفيلا فيه بـ50 مليوناً، وسكان عشوائيات، كلنا كنا شبه بعض رغم التنوع الكبير، هذه المسألة أثرت فى شخصيتى وكتاباتى، ليس للسينما فقط، لكن للشعر أيضاً، وتحديداً فى ديوانى الشعرى «شبرا مصر».

أنا أحب الشعر جداً، الديوان كان مرآة للواقع الذى تربيت فيه، مثلاً طنط أولجا، سيدة لا تنجب، ليست جميلة، وحيدة، لكن معها كلبة، كنا نراها تتحدث وتضحك مع هذه الكلبة، كنا نعتقد أنها مجنونة عندما كنا أطفالاً، لكن حين كبرت أدركت أنها سيدة عظيمة خلقت عالمها بنفسها، وهناك شخصيات كثيرة كتبت عنها فى الشعر والسينما وسرقتها من شبرا، هذا الحى كأنه حتة من مصر وضعتها تحت الميكروسكوب ودرست كل تفصيلة من تفاصيلها، خاصة أننى نشأت فى قلب شبرا، تحديداً منطقة خلوصى، شارع الترعة، لعبنا كرة فى كل شوارع شبرا، ودخلنا كل السينمات التى أُغلق أغلبها وتحولت إلى مصانع أحذية ومحلات تجارية.

متى يتفرغ كاتب السيناريو للكتابة؟

عندما ينجح، أنا لم أترك عملى كطبيب إلا عندما خرج «آيس كريم فى جليم» إلى النور، وبدأت شركات الإنتاج تطلب منى أعمالاً.. الإنسان لا يستطيع أن يتفرغ إذا كان مسئولاً، دون أن يجد مصدراً آخر لدخله، ومحطة عمل يرتكز عليها، أنت لا تطير فى السماء بمفردك، أنا كنت مسئولاً عن أسرة، ماكانش ينفع أقول عايز أبقى سيناريست أو فنان أو شاعر إلا بتحقيق نجاح ملموس على الأرض، الأستاذ عبدالوهاب يقول: للفن ضحايا، فاحذر أن تكون من ضحاياه.. كل شخص أمسك قلماً وورقة يعتقد أنه كاتب، ويصدق ذلك، لأن الكتابة مهنة خادعة، رغم صعوبتها، وهناك الكثير من الضحايا لهذه الخدعة، قضوا أعمارهم يمسكون قلماً وورقة، لكن لم يقدموا شيئاً.

الكُتَّاب نوعان: موهوبون وواهمون

الموهبة تعلن عن نفسها، يمكنك أن تكتشفها بسهولة، هناك كاتب موهوب حقيقى، وكاتب يظن نفسه أنه موهوب، أنا أحاضر فى دورات تدريبية لكتابة السيناريو، لا أشرح للمتدربين: كيف تكتب السيناريو؟.. هذا كلام موجود فى الكتب ويمكنه قراءته دون أن يأتى لى، لكن أقول له كيف تصنع فكرة، وكيف تسوق لهذه الفكرة، إزاى تكون شاطر فى مخاطبة المنتج والمخرج والجمهور.

أنا منتج ودخل علىّ سيناريست معه معالجة من 10 صفحات، وآخر معه معالجة من صفحة واحدة.. ماذا سوف أقرأ؟.. طبعاً الصفحة الواحدة.

يبقى تتعلم التكثيف، الوضوح، السرعة فى الحوار، ونبدأ نتناقش ونحلل ونسمع إلى بعضنا البعض، نتكلم فى كل حاجة: الدين والسياسة والكرة والحياة، وخلال هذه العملية يظهر الموهوب ويظهر الشخص الفالصو، وغالباً الشخص الفالصو هو الذى يتحدث كثيراً، ومن الأشياء التى لاحظتها أيضاً أن الفتيات أكثر موهبة من الشباب فى حالات كثيرة، ربما لأنهن يهتممن بالتفاصيل أكثر، والسيناريو هو فن التفاصيل.

حب الكتابة والحياة

«أنا أؤمن أن كتابة الدراما متعة، خيال، غير معقول أن هذا الخيال تقطعه أمور أخرى، الكتابة تحتاج إلى تركيز، وحد بيحب الكتابة وبيحب الدنيا والحياة ومجنون ومطرقع، نجيب محفوظ، هذا الإنسان الذى يبدو أنه موظف، هو فى الحقيقة كان مجنوناً، الكتابة تحتاج إلى الجنون أحياناً».

شرطى هو الصدق

بحثت عن أفكار مختلفة طوال الوقت، فى أى مهنة، وأى شخص، ستجد المطرقع والتقليدى، بحثت عن الجديد، ما هو الجديد الذى يمكن أن أقدمه، شرط أن أكون مصدقه أولاً، لو أعطتنى مال قارون، لكن الموضوع الذى لا أؤمن به ولا أصدقه، مستحيل أن أكتب، أول خطوة فى النجاح إنك تكون على علاقة حب بالموضوع الذى تعالجه.

الخطوة الثانية أن تكون مختلفاً، مثلاً «شورت وفانلة وكاب» أول فيلم اتعمل فى شرم الشيخ بـ«الاستايل» ده، واتعمل بعده أكتر من 20 فيلم بنفس الشكل.

فيلم «مافيا» يعتبر أول فيلم أكشن حقيقى فى مصر، فيلم «صعيدى فى الجامعة الأمريكية» هو الذى فتح الباب لعشرات الأفلام والنجوم بعد ذلك للعمل فى هذه المساحة. فيه حاجة اسمها trend center، بمعنى أن تصنع الاتجاه، والناس تمشى وراءك.

أنا رفضت أن أمشى وراء أحد ليس فى السينما فقط، لكن فى التليفزيون أيضاً، مثل: «الداعية ومحمود المصرى وحارة اليهود»، جميعها أفكار جديدة ومختلفة.

الكتابة لنجم؟.. المنتج هو الفيصل

هذه فلسفة فارغة، المنتج هو الفيصل دائماً، عندما يتم عرض الفيلم هل يحصل على إعجاب الجمهور أم لا؟.. أنا فى «صعيدى فى الجامعة الأمريكية» كنت بعمل فيلم لهنيدى، هل نجحت إنى أوصل اللى أنا عايزه من خلال هنيدى؟.. آه نجحت، انسى بقى انت كاتبه لنفسك ولا انت كاتبه للفكرة ولا للنجم، المهم أن تحافظ على الدراما، وألا تضيعها من أجل فنان أو أى شىء آخر.

فى «محمود المصرى» أنا كتبت المسلسل للفنان الراحل محمود عبدالعزيز، لكن قدمت معه عدداً كبيراً من النجوم، كل الفريق كان بطلاً فى العمل: غادة عبدالرازق، خالد صالح، سمية الخشاب، مى عزالدين، والعمل نجح فى النهاية.. هذا هو الفيصل.

المعايشة من أجل تفاصيل حقيقية

طبعاً المعايشة أمر مهم، فى «أمريكا شيكا بيكا» سافرت أنا وخيرى بشارة ومنتج الفيلم إلى بوخارست وباراشوف، عاينا الأماكن بنفسنا، وكانت هناك مفارقة أننا ذهبنا فى سنة حاسمة، بعد سقوط تشاوشيسكو بسنة واحدة، فكان البلد متأرجحاً بين نظام شيوعى ما زال موجوداً ونظام رأس مالى عايز يطلع، أنا شُفت بلد بيتباع قدام عينى، يعنى مكتسبات الشعب اللى اتعملت أيام تشاوشيسكو تم بيعها، صحيح كان هناك ديكتاتورية وقمع، لكن كانت هناك مكتسبات أيضاً يجب الحفاظ عليها مثل الثورة الصناعية الهائلة.

أنا شفت مصانع بتتباع بـ20 ألف دولار، اليهود دخلوا اشتروا رومانيا قدام عينى، وكان بصحبتنا مخرج رائع اسمه «ميرتشا»، كان الـguide بتاعنا، وكان رجلاً مثقفاً شرح لنا أحوال البلد السياسية والاجتماعية.

الإيقاع السريع.. العالم يجرى من حولنا

الدراما هى الدراما، سواء مسلسل أو فيلم، إذاعة أو تليفزيون أو سينما، لكن الذى يختلف من كاتب لآخر هو الإيقاع.


مواضيع متعلقة