د. نظير محمد عياد يكتب: أهمية الفتوى وضوابطها

د. نظير محمد عياد يكتب: أهمية الفتوى وضوابطها
لا يخفى على أحد ما للإفتاء من مكانة عظيمة، وما للفتوى من تأثير كبير فى توجيه سلوكيات الأمة أفراداً وجماعات، نظراً لتعلق الموضوع بأمور دينهم من عقائد وعبادات وبأمور دنياهم من عقود وتصرفات، ومعاملات مالية، واجتماعية، وغير ذلك مما يُستشكل على الناس من أمور دينهم ودنياهم، فيستفتون فيه أهل العلم ويسألونهم لإزالة هذا الإشكال ومعرفة حكم الله تعالى من حيث الحِل والحرمة فيما تعاطوه ووقعوا فيه، أو من حيث الإحجام والإقدام فيما هم مقدمون عليه، ويفكرون فيه، بما يعنى أن خلو المجتمع من المفتين يجعل الناس يعيشون فى حيرة من أمرهم، ويتخبطون فى دينهم خبط عشواء، ويسيرون تبعاً لأهوائهم، فيحلون الحرام ويحرّمون الحلال ويرتكبون المعاصى من حيث يعلمون أو لا يعلمون.
ويكفى فى بيان أهمية هذه الوظيفة، وبيان فضلها أن نعلم أن أول مَن قام بها هو سيد المرسلين، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكان يفتى عن الله بوحيه المبين، فكانت فتاواه صلى الله عليه وسلم فصل الخطاب.
وعندما التحق النبى صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، خلفه فى القيام بهذه الأمانة جمعٌ من الصحابة الكرام، قُدر عدد من حُفظت عنهم الفتوى بمائة ونيف وثلاثين رجلاً وامرأة، تفرقوا فى الأمصار، وقصدهم الناس ثم صارت الفتوى إلى مَن بعدهم من علماء التابعين وتابعى التابعين، حتى صارت إلى نخبة من العلماء الذين لم يخل منهم بلد، وما زال الأمر على ذلك حتى يومنا هذا مع تباين فى الأحوال والأزمان والأشخاص.
ولا يخفى ما فى هذا الأمر من عظيم الخطر وعظيم الأثر وكبير المسئولية وهذا ما نبه إليه الإمام النووى بقوله: «اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، وكيف لا، والمفتى موقع عن رب العالمين ووارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية.
لذا هابها أكابر العلماء العاملين وأفاضل السابقين، والخالفين بدءاً بأصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وكبار العلماء من بعدهم، وكان أحدهم لا تمنعه شهرته بالأمانة، واضطلاعه بمعرفة المعضلات فى اعتقاد مَن يسأله من العامة من أن يدفع بالجواب، أو يقول: لا أدرى، أو يؤخر الجواب إلى حين يدرى.
وما يجسد أهمية الفتوى وخطورتها فى آن واحد قول الإمام الشاطبى: إن المفتى شارع من وجه؛ لأن ما يبلغه من الشريعة؛ إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول، فالأول يكون فيه مبلغاً، والثانى يكون فيه قائماً مقامه فى إنشاء الأحكام.
فحقيقٌ بمن أقيم فى هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذى أقيم فيه، ولا يكون فى صدره حرج من قول الحق والصدع به.
وكما وضع العلماء شروطاً للمفتى القائم، فقد وضعوا أيضاً شروطاً لكيفية صدورها، وهذه الشروط بمثابة الضوابط والقواعد اللازم توافرها، والدعائم الواجب مراعاتها واستحضارها عند الإخبار بها حتى تقع فى موضعها، وتحقق المصلحة الشرعية المقصودة منها.
ومن أهم هذه الشروط والضوابط التى يجب على المفتى استحضارها ومراعاتها: الإحاطة بالواقعة المسئول عنها؛ وبالموضوع محل السؤال، وبالواقع الذى يحيط بهذه الواقعة، والظروف الحياتية التى يمر بها المستفتى، وأى تقصير فى هذه المرحلة المهمة، والتى يمكن أن نصفها بمرحلة التصوير والتشخيص للواقعة سوف ينعكس سلباً على الفتوى.
ومن هنا حذر العلماء من التسرع والعجلة فى الفتوى وعدّوا ذلك ضرباً من التساهل المذموم، إدراكاً منهم بأن إكمال النظر والفكر فى الواقعة، ومعرفة الظروف التى تحيط بالواقعة المسئول عنها من الإجراءات التى تمكّن المفتى من التصور الصحيح للواقعة، بما يساعده على التكييف الصحيح لها، ومن ثم إصدار الحكم الصحيح فيها، ومن الضوابط المهمة التى ينبغى أن تراعى عند إصدار الفتوى وتعين المفتى على التشخيص وإصدار الحكم الصحيح الوقوف على عرف بلد المستفتى، وما يعهده أهله فى ألفاظهم، ومعاملاتهم، وتفاصيل حياتهم، وعدم الجمود على المدون فى الكتب، ومن لم يكن على بصيرة من ذلك فقد ضل وأضل، خاصة فيما يتعلق بالطلاق، والأيمان، والوقف، وشروط التجار والصناع، ونحو ذلك مما مبناه العرف، ويؤثر فى إصدار الحكم.
ومن ضوابط الفتوى المقررة أيضاً: ضرورة الرجوع إلى أهل التخصص وذوى الخبرة فيما يتعذر على المفتى الإحاطة به، والوقوف على كنهه، خاصة فى القضايا الفقهية المعاصرة المتشابكة والمتداخلة مع تخصصات شتى.
ومن هنا تتجلى أهمية التخصص الدقيق، والعلم الجمعى وأثره على الإفتاء المعاصر، إذ لا يمكن للمفتى أو الفقيه فى ظل التطور السريع للواقع، وللوقائع والأحداث، وتشابك الأحكام أن يفتى فى قضية ذات ارتباط بعلم الطب -مثلاً- دون أن يسأل علماء الطب، كما لا يتأتى له أن يصدر فتوى فى نازلة اقتصادية إلا بعد الاطلاع على حيثياتها، وتصورها تصوراً تاماً عن طريق مشاركة علماء الاقتصاد، أو فى مسألة اجتماعية دون استشارة علماء الاجتماع، وهكذا فى بقية التخصصات، ومع ذلك يستحب له أن يشاور علماء الشريعة، الذى هم فى درجته وتخصصه؛ ليكون الاجتهاد جماعياً، والفتوى شورى.
ومن الأمور التى يجب أن تكون تحت عين المفتى وهو يقوم بالفتوى مراعاة القانون المعمول به فى بلد المستفتى، والتى نصوصه منتقاة من الفقه الإسلامى بعد دراسة طويلة، خاصة فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، وعلى ذلك فمن الأخطاء التى يقع فيها بعض المفتين أن تأتى فتواهم على خلاف قانون الدولة التى يسكنها المستفتى، فكثير من المفتين لا يلتفت إلى هذا، والسبب أن المستفتى من المشرق، والمفتى من المغرب، وهو يجهل قانون الدولة التى خرج منها السؤال، فيوقع المستفتى فى حرج شديد، واضطراب نفسى، والتعرض للعقوبة، وضياع الحقوق، وهذا على خلاف ما هو مقصود من الفتوى، من التيسير على الناس، والعمل على حل مشكلاتهم، ورفع الحرج عنهم.
والحقيقة أن الكلام عن الفتوى وضوابطها يطول، وما ذكرناه هو غيض من فيض، وقليل من كثير، ولعل فيما ذكر يُغنى عما لم يذكر. والله المستعان وعليه التكلان.
مفتى الديار المصرية
رئيس الأمانة العامة
لدور وهيئات الإفتاء فى العالم