من أب مصري للعدو: نشكركم على حسن تعاونكم معنا
قبل أيام سألنى ابنى صاحب السبع سنوات (يوسف) ما إذا كنت أعرف فلسطينيين، فأجبته أنى أعرف كثيراً وأتعامل معهم كثيراً بحكم عملى فى صحافة الشئون الخارجية، وأنا هنا لا أنسى أن أول مصدر صحفى تعاملت معه من غير المصريين فى بداية عملى بقسم الشئون الخارجية بجريدة «الوطن» كان فلسطينياً وهو الدكتور أيمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس، الذى يعلم جميع العاملين فى حقلنا أنه ليس مجرد مصدر بل أستاذ ومعلم وأخ أكبر.
أعود إلى حديثى، عندما أردت معرفة أهداف يوسف من وراء سؤاله أجابنى أنه يريد هو الآخر أن يتعرف على فلسطينيين ويكون له أصدقاء منهم، وطلب منى أن أدعو أياً من أصدقائى الفلسطينيين إلى منزلنا، أو أن آخذه معى إلى أى فعالية بها فلسطينيون، ليس هذا فحسب، فصغيرى منذ بداية العدوان كلما ذهبنا إلى «سوبر ماركت» للشراء يكون الأمر صعباً لأنه يصر على استبعاد أى «منتج مقاطعة»، ويكون الأمر أصعب إذا اشترينا أياً من تلك المنتجات ووجد نفسه مضطراً لتناوله.
هو من ثبّت على هاتفه ذات يوم تطبيقاً لمعرفة منتجات المقاطعة، وهو الذى ذات يوم أصر على رسم علم الاحتلال مع شقيقته (4 سنوات) ووضعه فى المرحاض، فى المقابل كان علم فلسطين حاضراً على أوراقه البيضاء دائماً، وكذلك خريطة ورموز فلسطين عبر حسابه على فيس بوك وهاتفه، وفى ألعابه كلما استطاع إطلاق اسم فلسطين على شىء فعل ذلك، بل وشغفه الدائم لمعرفة كل شىء عن فلسطين ومتابعة أخبارها.
كل هذه المشاعر انفجرت بصدر ابنى مع عدوان الاحتلال على قطاع غزة وما شاهده من أطفال خضبت الدماء أجسادهم، أو ذاك الذى يرتجف جسده رعباً (كما لو كان فى عز طوبة) يبكى بكاء يهز القلوب، أو صراخ الأمهات الثكالى، وغيرها وغيرها من المشاهد المؤلمة، لدرجة أنه لا يحبذ على الإطلاق أن يتلفظ بكلمة «إسرائيل» وإنما يستبدلها بكلمات أخرى مثل «الزبالة».
ما أريد قوله أن أكثر ما كان يهم الإسرائيليين على مدار عقود إقامة علاقات شعبية مع الدول العربية، فلا تعنيهم كثيراً تلك التى على المستوى الحكومى، فالأخيرة مهما بلغت ذروتها تبقى مجرد «حبر على ورق» بالنسبة لهم، إنهم لا يعنيهم أى اتفاق للسلام لكنهم يتمنون لحظة يرون فيها مواطناً مصرياً بسيطاً يحتضن إسرائيلياً أو يصادقه (طبعاً لما يشوفوا حلمة ودنهم)، فقد ظنوا مع الوقت أننا يمكن أن ننسى ما بيننا من دماء أريقت وأراضٍ سُلبت ومقدسات انتُهكت.
هنا أتذكر حين كنت فى إحدى الدول الأوروبية (الدنمارك) وخرجت أتجول فى أحد ميادين كوبنهاجن فذهبت إلى مكان يشبه السوق، وجدت شخصاً يبيع أشياء غربية (علمت لاحقاً أنها تُستخدم للتدفئة)، فساقنى فضولى لأسأله حول بضاعته تلك، وبينما يجيبنى أجد عينيه تلمعان بشدة وينظر إلى عينى بشكل مباشر وأسارير وجهه منفرجة للغاية، الحقيقة كنت أستغرب هل كل هذا لأنى أسأل عن بضاعته علماً أننى لن أشترى، لقد ركز مع لهجتى الإنجليزية حين سألته وعلى ملامحى الشرق أوسطية، حتى باغتنى بسؤال يقوله مبتسماً وبصوت عال «أنت مصرى؟»، وبطبيعة الحال أجبته بكل «انشكاح» «يس»، لأجده يمد يده ليسلم وسبقت يده كلمة قالها بصوت أعلى فرحاً «أنا إسرائيلى».
أقسم بالله فجأة وجدتنى عدت خطوة سريعة للخلف قبل أن تلمس يده يدى وكأنى صُعقت بكهرباء، معها تبدل وجهه تماماً كأنه لا يعرف ما الذى حدث معى وقلت لفظاً باللغة العربية (يللا يا ابن الكلب إسرائيلى مين..)، ثم عدت خطوة أخرى وأدرت له وجهى وانصرفت، وبعد خطوات أخرى التفت إليه فوجدته لا يزال «متسمراً» فى مكانه ينظر إلىَّ وأنا بالطبع فى ذهول، فهذه أول مرة أرى إسرائيلياً، ومع تلك اللحظات ترسخت لدىَّ قناعة أن أكثر ما يُحزن هؤلاء ويقهرهم أنهم مهما فعلوا لن يجدوا منّا «ريقاً طيباً»، بل إنهم بغبائهم العدوانى على غزة ولبنان فقد خلقوا منّا جيلاً جديداً من عمر يوسف ابنى عادت إليه ثوابتنا التى لا تقبل التنازل أن «إسرائيل هى العدو الأول» و«فلسطين قضيتنا الأولى» و«القدس عربية»، ولهذا علينا أن نقولها مرة أخرى كما قالوها فى مسلسل جمعة الشوان «نشكركم على حسن تعاونكم معنا».