تاريخ الحركات السرية: اغتيالات.. وتفجيرات

تاريخ الحركات السرية: اغتيالات.. وتفجيرات
«التضامن الأخوى»، «الحرس الحديدى»، «اليد السوداء»، «القمصان الزرق»، «جمعية الانتقام»، «تنظيم ثورة مصر»، «التنظيم السرى للإخوان»، «البلاك بلوك».. تعددت الأسماء والمعنى واحد، «جماعة سرية تعمل تحت الأرض لتنفيذ أهداف محددة»، وهى تتغذى على التخريب وعمليات الاغتيال والتفجيرات. وقد تعلن الجماعة عن نفسها بعد مرور فترة من الزمن، وقد تظل مختفية حتى يكشف عنها الآخرون النقاب، وربما لا هذا ولا ذاك فلا تعلن عن نفسها ولا يكتشفها أحد، لتنتهى مهمتها وقد أسقطت سرها فى بئر عميقة دون أن يصل خبرها لأى مخلوق.
كانت أول جماعة سرية تعرفها مصر فى العصر الحديث تلك التى أنشأها المفكر الإسلامى الشهير جمال الدين الأفغانى عام 1879 تحت اسم «الحزب الوطنى الحر». ويقول عنها الكاتب أحمد بهاء الدين فى كتابه «أيام لها تاريخ» إن حزب الأفغانى كان رداً على التدخل الأجنبى فى شئون مصر أواخر حكم الخديو إسماعيل وأوائل حكم ابنه توفيق، وإن الحزب كان سرياً يوزع المنشورات ويدعو إلى حكم الشعب بنفسه، وإنه كان يضم إلى جوار السياسيين الكبار، من أمثال شريف باشا وسلطان باشا، عدداً من الثائرين الشباب أمثال سعد زغلول وعبدالله النديم. ويواصل «بهاء الدين» ليقول إن الحكومة المصرية آنذاك كانت تطارد المنشورات الصادرة عن الحزب السرى، إلى أن ألقت القبض على «الأفغانى» ذات ليلة وهو مقبل من قهوة «متاتيا»، وساقوه إلى الحجز، حيث أمضى ليلته على البلاط مع اللصوص والساقطين، وفى الصباح وضعوه فى عربة مقفلة إلى محطة السكة الحديدية، ثم إلى السويس منفياً من مصر، وصدر فى الصباح بلاغ يبرر نفيه بأنه «رئيس جمعية سرية من الشبان ذوى الطيش، مجتمعة على فساد الدين والدنيا».
جماعة أخرى سرية ذكرها سعد زغلول فى مذكراته حين سجل حادث اغتيال السياسى الشهير بطرس غالى عام 1910. كتب «زغلول» يقول إنه فى يوم الأحد 20 فبراير 1910 جاءه خبر اغتيال بطرس غالى فتوجه إلى مكان الحادث فوجدهم يضعونه فى عربة نقل، وسار خلفه إلى «اسبتالية ملتن» فوُضع فى غرفة على سرير، وعاد إليه صوابه، وكان يتأوه، وأصيب عدة إصابات فى جنبه ورأسه وبين كتفيه. وتابع أن الأطباء أجروا لغالى عملية ثم توفى فى الساعة الثامنة من اليوم التالى.
[FirstQuote]
وتحدث سعد زغلول عن الجانى فقال إن اسمه إبراهيم الوردانى، ويعمل صيدلياً، وإنه أقرّ بفعلته عند القبض عليه قائلاً إنه ارتكبها بسبب «خيانة بطرس غالى للوطن بتصديقه على اتفاقية السودان، ونشر قانون المطبوعات ورئاسته محكمة دنشواى، وترويج مشروع قنال السويس»، ووُجدت مع «الوردانى» فى صيدليته ومنزله بعض الأوراق دلت على أن هناك جمعية سرية من قصدها إعطاء مصر للمصريين واستقلالها ولو مع استعمال القوة، وعُثر على عقد تشكيل الجمعية وقانونها، وألقى القبض على كثيرين من أعضائها.
ويقول الدكتور محمد الجوادى فى كتابه «فى ضوء القمر.. مذكرات قادة العمل الوطنى السرى والاغتيالات السياسية 1910-1925» إن «الوردانى» كان عضواً فى جمعية سرية تسمى «جمعية التضامن الأخوى»، رغم أنه أنكر فى التحقيقات التى أجريت معه انضمامه لأى جماعة، مؤكداً أنه نفذ الحادث بمفرده. ويضيف «الجوادى» أن جمعية التضامن الأخوى التى تكونت فى الربع الأول من القرن العشرين من عدد من الشباب قامت بعدة محاولات لاغتيال مجموعة من السياسيين المصريين والبريطانيين بهدف تحرير الوطن، كان منهم الخديو عباس حلمى الثانى، والمعتمد البريطانى اللورد كيتشنر، ورئيس الوزراء محمد سعيد، غير أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل، ولم ينجحوا بالفعل إلا فى عملية اغتيال السير لى ستاك سردار الجيش المصرى فى السودان عام 1924، وهو الحادث الذى تسبب وقتها فى تقديم سعد زغلول لاستقالته من منصبه كرئيس وزارة بعد عام واحد على توليه المنصب، وقال «زغلول» معلقاً على الحادث: «الرصاصات التى وُجهت إلى السير لى ستاك قد صُوبت إلى صدرى»، ذلك لأن الحكومة البريطانية استطاعت أن تحصل من مصر على مكاسب كبيرة بعد وقوع الحادث، وفى الوقت نفسه تم القبض على أعضاء الجمعية وحُكم عليهم بالإعدام.
ويصف «الجوادى» طقوس انضمام الأعضاء الجدد إلى جمعية التضامن الأخوى السرية بقوله: «كان العضو الجديد يؤدى البيعة فى مكان مجهول يذهب إليه وهو معصوب العينين، ويظل كذلك وهو يجيب عن أسئلة توجه إليه، ثم يضع يده على المصحف والسيف ويقسم على الإخلاص والسرية، وإلا كان جزاؤه الإعدام، وبعد خروجه من المكان المجهول تُرفع العصابة عن عينيه»، وهى طقوس يقول «الجوادى» إنها تشبه إلى حد كبير طقوس الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين التى تكونت فيما تلا ذلك من أعوام.
تكونت جماعة الإخوان المسلمين وتكوّن لها فى وقت لاحق جهاز سرى راح بدوره يمارس جرائم اغتيالات فى حق شخصيات عامة كان على رأسها القاضى أحمد الخازندار عقب قيام الأخير بالحكم فى قضية كان أحد أطرافها عضواً فى جماعة الإخوان المسلمين، وجاء حادث اغتيال الخازندار فى مارس عام 1948 كباكورة أعمال التنظيم السرى لجماعة الإخوان، تلاه فى ديسمبر من نفس العام اغتيال اللواء سليم زكى، حكمدار بوليس القاهرة، ثم فى نفس الشهر وقع الاغتيال الثالث لمحمود فهمى النقراشى، رئيس الوزارة ووزير الداخلية، بعد أن اتخذ قراراً بحل الجماعة والقبض على عدد كبير من أعضائها، ثم واصل التنظيم عملياته بمحاولة نسف مبنى محكمة الاستئناف بباب الخلق بالقاهرة، وهو ما دعا المرشد العام للجماعة وقتها حسن البنا لأن يكتب مقاله الشهير الذى تبرأ فيه من الفاعلين تحت عنوان «ليسوا إخواناً، وليسوا مسلمين».
وقبل تنظيم الإخوان السرى عرفت مصر عدداً من تنظيمات أصحاب القمصان الملونة، يقول عنها الدكتور يونان لبيب رزق فى سلسلته الشهيرة «الأهرام ديوان الحياة المعاصرة» إنها غزت الحياة فى مصر بين عامى 1933 و1937، وإن تشكيلها كان على نمط شبه عسكرى، وكان من أهمها جمعيتان أولاهما «أصحاب القمصان الخضراء» التى أسستها جمعية مصر الفتاة التى رأسها السياسى أحمد حسين، والثانية «أصحاب القمصان الزرقاء» التى كوّنها حزب الوفد من بين صفوفه الشابة.
ورغم أن يونان رزق يقول إن تنظيمات أصحاب القمصان الملونة تشكلت فى صورة علنية فإنه يعود ليقول إن دار المندوب السامى أبدت تخوفها من أن يؤدى تفشى ظاهرة تكوين تلك التنظيمات العسكرية إلى حالة من الفوضى الأمنية التى يمكن أن تشكل خطراً على حياة الأجانب ومصالحهم. على كل حال، فإن أصحاب القمصان الملونة لم يستمروا طويلاً، إذ سرعان ما انتهوا كما بدأوا ليفسحوا الطريق أمام جماعات أخرى راحت تبحث لنفسها عن فرصة للظهور.
[SecondQuote]
واحدة من تلك التنظيمات السرية كوّنها الملك فاروق نفسه تحت مسمى «الحرس الحديدى»، عقب حادث اصطدام سيارته بمقطورة نقل إنجليزية عند القصاصين بالإسماعيلية عام 1943. تعرّف الملك وقتها على الطبيب يوسف رشاد الذى قام بعلاجه من الحادث، وكان الملك وقتها لا يزال يشعر بالمرارة من حادث 4 فبراير الذى حاصرت فيه القوات البريطانية قصر عابدين وفرضت على الملك اختيار مصطفى النحاس رئيساً للوزارة. ويقول سيد جاد، أحد أعضاء التنظيم، فى مذكراته التى حملت اسم «الحرس الحديدى»، إن الملك فاروق فاتح يوسف رشاد فى إنشاء تنظيم من الضباط المخلصين للملك يقومون بعمليات ينتقم فيها من خصومه، وإن «رشاد» رحب بذلك بعد أن استشار أصدقاءه الضباط الذين يسهرون عنده بشكل منتظم، وكان عددهم خمسة، أربعة منهم من صغار ضباط الجيش، والخامس ضابط مطافئ، وقد كلفهم الملك باغتيال مصطفى النحاس، زعيم الوفد، وأمين عثمان، وزير المالية فى حكومة الوفد.
فشلت محاولة اغتيال النحاس فيما نجحت عملية اغتيال أمين عثمان عام 1945 على يد شاب يُدعى حسين توفيق، وهى العملية التى اتُهم الرئيس الثالث لجمهورية مصر العربية فيما بعد، محمد أنور السادات، بالإشراف على تنفيذها حين كان ضابطاً صغيراً بالجيش وعلى علاقة وثيقة بيوسف رشاد الذى ضمه للحرس الحديدى الذى نفذ عملية اغتيال أمين عثمان، لكن المحكمة برأت السادات من تهمة قتل أمين عثمان.
وباستثناء عدد قليل من التنظيمات الشيوعية، ثم الجماعات الإسلامية الصغيرة التى عرفتها مصر فى سنوات الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضى، فإن التنظيم السرى الأخطر كان ذلك الذى أسسه فى عام 1984 ضابط مخابرات يُدعى محمود نور الدين، كان يعمل فى السفارة المصرية بلندن، وجاء تأسيس التنظيم فى محاولة لمقاومة الصهيونية فى مصر، كما قال نور الدين بنفسه فيما بعد. ولذلك كانت أولى عملياته هى الهجوم على زيفى كيدار، أحد المسئولين بالسفارة الإسرائيلية بالقاهرة فى يونيو 1984 عند خروجه من بيته بمنطقة المعادى، وقد أصيب «كيدار» بجرح فى يده نتيجة لطلق نارى، وتم نقله للمستشفى. وأتبع التنظيم تلك العملية بثلاث عمليات بواقع عملية كل عام حتى تاريخ القبض على أعضائه فى سبتمبر 1987، وسط ضجة إعلامية كبيرة، خاصة أن أحد من نسبت إليهم جهات التحقيق اتهاماً بالانتماء للتنظيم كان الدكتور خالد عبدالناصر نجل الرئيس الراحل «عبدالناصر».