هل يخطئ الإعلام؟
أعتذر مقدماً لمن سيغضبه إجابتي أو مقالي، لأني أرى وبعيداً عن التحيز لمهنتي العظيمة، مهنة الإعلام والصحافة، وقولاً واحداً، إن الإعلام لا يخطئ، لأنه لا يملك رفاهية أن يصيب أو يخطئ، لأن الإعلام ومع كل التقدير للنظريات الأكاديمية، هو انعكاس لمجتمعه وتعبير عن المسموح به في ظل الدور المحدد له.
واختصاراً للكليشيهات التي رددتها أجيال وأبعدتها عن المهنية والموضوعية والحرية والرسالة الإعلامية، دون مردود حقيقى لها فى الواقع، ومن منطلق التقريب لهذا الواقع الذى أصبحنا نعيشه، فإننى أرى أن الإعلام يتشابه مع الذكاء الاصطناعى فى نظرية عمله، فإن كنتَ قد استوعبت آلية دور (AI) فسوف تدرك بسهولة ماهية الـ(Media) وصعوبة ارتكابها الخطأ.
وهذا لم يمنع أياً من مستخدمى الإعلام وزبائنه، من أن يسبه ويلعنه ويتهمه بثقة العارف بأى من صفات الذم المتعددة التى أصبحت لصيقة بمهنة هى فى الأصل أداة تعبير ذات طبيعة هلامية طيعة، تتشكل وفق ظروف كل عصر وتتماهى بشكل احترافى مع متطلباته، تتوافق بسهولة مع أى وسيلة تعبير جديدة، تطوع نفسها وتهذب من سلوكها كى تحظى بالنجاح المطلوب.
طالت مقدمتى، ولكنى قصدتها شاملة لتحيط الهدف الظاهر للمقال وهو الرد على الحملة الشرسة على المهنة خلال الأيام الأخيرة، فقد بات نوعاً من الاستسهال أن تعلق المشانق للإعلام والمشتغلين به لأنهم يسعون وراء الأخبار التى ربما يراها البعض لا تليق بالمتابعة أو الاهتمام، مثل أخبار النجوم فى أفراحهم وأتراحهم، أو شواذ الحوادث وغير المألوف منها، والتى أصبحت توصف بـ«التريند»، الهوس الذى سيطر على أجندة وسائل الإعلام التقليدى منها والجديد.
إن محاكمة الإعلام تدخل تحت باب الجدل الصفرى، لأنه ليس منطقياً أن نحاسب الصورة ونترك الأصل بلا أى محاسبة، فالإعلام هو مرآة المجتمع، وإن كان هناك من يراها خطيئة مهنية إثارة موضوع بيع مطعم شهير ليزاحم أخبار احتفالات المصريين بذكرى النصر العظيم، فأهمس فى أذن هؤلاء، وما ذنب الإعلام؟، هل هو من دفع الملايين للبحث عن فيديوهات صاحب المطعم الشهير، ومشاهدتها بهذه الكثافة الكبيرة؟
فى بداية مشوارى مع المهنة، وخلال مرحلة ممتدة لسنوات ظلت مثل هذه الأفكار الكلاسيكية تسيطر على معاييرى المهنية، وتحكم اختياراتى الصحفية، كنت أبحث عن القيمة وأمارس دور (الرقيب الفاضل) عند تمرير أى خبر، حتى أكرمنى الله بالسفر خارج مصر والعمل لفترة فى لندن، كنت أتابع صحف الإنجليز مندهشاً من عناوينهم وأجندة اهتماماتهم، والعناوين التى تتصدر صفحاتهم الأولى، وهيمنة أخبار الإثارة والحوادث من السياسة إلى الاقتصاد مروراً بالفن والرياضة، واحتلالها أكبر المساحات فى أشهر الصحف العالمية، التى تخلت عن تصنيفات تقليدية عُرفت بها، صحافة نخب وقورة، أو صحافة شعبية متحررة، الجميع يلهث ليجذب الزبون.
وتاريخياً فى بلادنا، نسى هؤلاء أنه لولا اهتمام الصحافة المصرية بجريمة «السفاح» محمود أمين سليمان فى خمسينات القرن الماضى، ما أبدع لنا أديبنا الكبير نجيب محفوظ روايته الشهيرة «اللص والكلاب»، ولو حدث تعالٍ على القصة بمنطق قيمى، لكنا سنخسر قصة كاشفة لعورات مجتمعية، كان استمرار السكوت عليها سيجعلها اعتيادية، أما تعريتها بالنقاش والتحليل فهو ما وضع المجتمع على طريق التشافى والتعافى.
اخترت نموذج محفوظ وروايته، وهناك أمثلة أخرى كثيرة كان الإعلام فيها ملهماً، سواء وصل هذا الإلهام لمرحلة الإبداع الأدبى أو التحرك القانونى أو التدخل الحكومى، وكلها ثمار يحصدها المجتمع ولا يتذكر أحد أن الإعلام كان باعثاً لهذا الأثر. وقد تطورت وظيفة الإعلام الممتدة من دور «المنادى» الذى يتجول فى الشوارع صائحاً (اسمعوا وعوا) ليخطر العامة بقرارات الوالى ووزرائه، مروراً بالـ(جازيت) التى ولدت لتستفيد باختراع المطبعة وتحل مكان (المنادى) الذى تغيرت وظيفته ليصبح موزعاً للصحيفة المطبوعة، ثم اتسعت طموحاته وأمسى محرراً فيها، وتطور معه المحتوى لتتقلص مساحة القرارات، وتظهر وجهات نظر حول أمور تختارها السلطة لطرحها على العامة. وانتقلت الوسيلة من الصحافة إلى الراديو ثم التليفزيون، وتطور معها المحتوى فى الشكل، وبقى المضمون يتحرك فى سياق الأهداف المحددة من قبل مالك كل وسيلة إعلامية، بعد أن تنوعت أشكال الملكية وسمحت السلطات بالملكية الفردية لوسائل الإعلام.
إلى أن داهمنا الإنترنت، ووصلنا إلى عصر تطبيقات (السوشيال ميديا) بما له وما عليه، والذى ولدت معه نظرية «المواطن الإعلامى» الذى أصبح كلمة السر لفهم المشهد الإعلامى الراهن. والذى خلّف لنا أسئلة أكثر صعوبة، بعد كل هذا التطور التكنولوجى والإعلامى والإتاحة المعلوماتية التى حصل عليها الإنسان، هل تغير دور الإعلام عن شكله الأولى عند مرحلة «المنادى»؟ وهل انتقل من دور الإبلاغ إلى حالة الإبداع فى شكل ومضمون المحتوى الذى ينتجه؟، وهل مهنة الإعلامى أو الصحفى فى طريقها إلى الاندثار؟، وهل مسألة الحصول على المعلومات فى المستقبل ستحتاج إلى وجود بشرى؟
أرى أن هذه الأسئلة وغيرها هى ما يستحق منا البحث، لنوسع دائرة مناقشاتنا أملاً فى الوصول إلى إجابات واضحة، بعد أن يختفى دخان (الكباب) الذى أزكم بعض الأنوف المتأففة وفتح شهية الألسنة لتلوك فى سيرة المهنة المظلومة.