تنحِّى الرئيس السادات بين الوثائق والوقائع
شهر أكتوبر هو شهر الرئيس الراحل محمد أنور السادات بلا منازع، فيه انتُخب رئيساً لمصر بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر سنة 1970.
وفيه أصدر «التوجيه الاستراتيجى» للفريق أول أحمد إسماعيل، وزير الحربية، بعبور الجيش المصرى وتحرير الأرض وتحطيم نظرية الأمن الإسرائيلى، والذى ذكر فيه نصاً: «إزالة الجمود العسكرى الحالى بكسر وقف إطلاق النار اعتباراً من يوم 6 أكتوبر سنة 1973، وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة، والعمل على تحرير الأرض المحتلة».
وتحقق النصر العظيم، وصدر قرار مجلس الأمن (رقم 338) بوقف إطلاق النار فى 22 أكتوبر سنة 1973، لتبدأ مصر مرحلة جديدة من معاركها مع إسرائيل عبر المفاوضات المباشرة.
وأخيراً كان أكتوبر أيضاً هو آخر أوراق النتيجة فى عمر الرئيس الراحل، حيث جرى اغتياله خلال العرض العسكرى السنوى الذى كان يُنظَّم احتفالاً بذكرى النصر فى السادس من أكتوبر، لم يشفع له عند قاتليه قرار الحرب الذى كان أقرب للمستحيل، ولا مشوار السلام الذى كان أشد صعوبة وخطورة من قرار الحرب، قُتل بطل الحرب والسلام غدراً قبل شهور قليلة من استرداد آخر قطعة من سيناء محررة فى 25 أبريل سنة 1982.
مات السادات بين جنوده وفى يوم نصره فى أكتوبر سنة 1981، تاركاً خلفه جدلاً لا يتوقف، ولم يكن آخره ما صدر قبل سنوات قليلة عبر هيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى»، وفق ما جاء فى وثائق بريطانية أزيل عنها النقاب تعود إلى عام اغتيال السادات، ومنسوبة إلى السفير البريطانى فى القاهرة، مايكل وير.
وتكشف الوثائق أن تقريراً مفصلاً بعث به السفير البريطانى فى القاهرة فى ذاك الزمان إلى حكومته بعد 23 يوماً من الاغتيال، أفاد بأن السادات كان جاداً فى رغبته فى التنحى عن حكم مصر.
وتوقع السفير أنه كان ينوى ذلك فى يوم استرداد مصر لسيناء كاملة فى أبريل سنة 1982.
وقد كُشف عن هذه الوثيقة للمرة الأولى سنة 2018، وطوال السنوات الست الماضية لم يُجرَ أى بحث جاد حول موضوع يمثل قصة مهمة ومؤثرة فى تاريخ مصر المعاصر، وتُرك الأمر دون تحقق أو تحرٍّ لمدى دقته، ولم يؤخذ الأمر على مجمل الجد رغم أن شواهد العصر تؤكد تكرار حديث الرئيس عن مسألة اعتزاله فى هذا التاريخ، وقد تعاملت معه المعارضة وقتها بسخرية، موحية بأنه كان حديثاً للمناورة السياسية من الرئيس، والإيحاء لخصومه بقرب رحيله كى يتوقفوا عن حملات المعارضة الشرسة التى طاردته فى عامه الأخير، وأوصلت المشهد السياسى فى مصر إلى حافة الهاوية باعتقالات سبتمبر الشهيرة التى طالت آلافاً من المختلفين فى الرأى مع السادات.
إن قصة ما جرى فى العام الأخير للرئيس، منذ تعثر صديقه جيمى كارتر فى انتخابات الرئاسة الأمريكية فى نوفمبر سنة 1980، وتوتر علاقته مع الإدارة الجمهورية الجديدة برئاسة رونالد ريجان، مروراً بزيارته الأخيرة للولايات المتحدة قبل شهور من وفاته والتى استشعر فيها حملة ممنهجة ضده فى الإعلام الأمريكى لاغتياله معنوياً ووضعه فى قفص واحد مع شاه إيران، وصلت إلى التنبؤ بسقوطه بنفس السيناريو الثورى بواسطة قوى الإسلام السياسى الصاعدة فى مصر، الوحش الذى أحياه السادات ليتخلص من قوى المعارضة الناصرية فتوغل فى الواقع المصرى بصورة أقلقت الغرب، حدث ذلك بالتزامن مع تصاعد الحملات العربية ضده بصورة ضارية أخدت شكل العداء المباشر، كلها أمور جعلت الرئيس يزداد إحباطاً ويأساً دفعه لأكثر من مرة خلال الشهور الأخيرة السابقة على اغتياله إلى الاعتكاف وحيداً، كلها شواهد عكست الحالة المزاجية العثرة للرئيس المصرى، والتى ربما تكون قد أسهمت فى جدية تفكيره فى أن يتنحى عن الحكم.
لقد شعر السادات بحالة عامة داخلياً وخارجياً من عدم التقدير لكل ما قدمه للوطن من تضحيات، ولم يعد خافياً عليه مع هذا التكثيف العدائى ضده أن بقاءه على رأس الحكم فى مصر بات عبئاً لا تحتمله الأيام، لهذا أظنه كان جاداً فى الانسحاب، ربما لم يكن قد أوجد الخطة التى تضمن له ولأسرته السلامة، وتوفر لمصر الاستقرار فى ظل أجواء عاصفة كانت تشهدها المنطقة والعالم بأسره، كما أن قلقه على مصير سيناء وإمكانية تراجع إسرائيل عن تنفيذ ما تبقى من عمليات الانسحاب، قد تكون عطلت قراره مؤقتاً لحين اكتمال ذلك، لكن القدر لم يمهله وتم اغتياله فى يوم عيده وعيد مصر احتفالاً بأهم نصر حققه لجيشها فى التاريخ الحديث.
شغلتنى قصة تنحى الرئيس وعدم إنصافه خلال استماعى إلى تسجيل نادر لخطابه التاريخى أمام مجلس الشعب فى مساء السادس عشر من أكتوبر سنة 1973، وصدى كلماته بنبرته القوية وهو يقول أخلد العبارات: «ربما جاء يوم نجلس فيه معاً لا لكى نتفاخر ونتباهى ولكن لكى نتذكر وندرس ونُعلم أولادنا وأحفادنا جيلاً بعد جيل، قصة الكفاح ومشاقه، ومرارة الهزيمة وآلامها، وحلاوة النصر وآماله، نعم سوف يجىء يوم نجلس فيه لنقص ونروى ماذا فعل كل منا فى موقعه، وكيف حمل كل منا الأمانة وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة فى فترة حالكة ساد فيها الظلام ليحملوا مشاعل النور وليضيئوا الطريق حتى تستطيع أمتهم أن تعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء».
رحم الله الرئيس الراحل، الذى لا يزال مظلوماً فى قراءة عصره وتقييم منجزه التاريخى، ويبحث عمن ينصفه.